دارين.. قصيدة في المحكمة الإسرائيلية!

thumbgen (49)
حجم الخط
 



لم يحدث أن شنت دولة حرباً على قصيدة، مثلما شنت إسرائيل الحرب على قصيدة محمود درويش »عابرون في كلام عابر«. في ذاك اليوم من عام 1987. لكأنه أيقظ الإسرائيليين من كذبتهم، فأصيبوا بالذعر من كلمات قليلة، فيها كل الحقيقة التي حاولوا أن يخفوها عن العالم واحد وستين سنة. أحدثت القصيدة زلزالاً في الكنيست، وهاج إسحق شامير رئيس الوزراء آنذاك، وزعيم عصابة الهاجاناة سابقاً.

في 13 نيسان 2016، عُقدت في محكمة الصلح في الناصرة، الجلسة الأولى لمحاكمة اتهام لشابة عربية من فلسطين، من قرية الرينة المحتلة منذ عام 1948، وهي الشاعرة والناشطة في التجمع الوطني الديمقراطي، دارين توفيق طاطور (33 عاماً)، التي تتّهمها »دولة إسرائيل« بالتحريض.

من الناحية القضائية كانت الجلسة حدثاً خافتاً قليل المضامين، يندرج ضمن الروتين اليومي للقمع الذي يتعرّض له الفلسطينيون في كلّ أنحاء بلادهم المحتلّة. ولكنّنا، من جهة أخرى، تقول رجاء زعبي، التي حضرت وقدمت وصفاً للمحاكمة، حظينا بـ »حدَث أدبيّ« لافت. العرض الذي شاهدناه في قاعة المحكمة، بلغ ذروات عليا من الدراماتيكيّة المطعّمة بمقاطع شعرية ونثرية، فأتحفنا بلوحة من فسيفساء أدبيّ متعدّد الأساليب، تختلط فيها الواقعية بالعبث والسريالية.

الشاعرة الماثلة أمام المحكمة بعد ستّة أشهر من الملاحقات والاعتقال والتنكيل كانت تطلق ابتساماتها، ويبدو عليها الرضا، وهي تشاهد الممثلين الهُواة منهمكين في تأويل أبيات الشعر. في 11 أكتوبر 2015، سُجنت دارين ثلاثة أشهر حتى 13 يناير 2016، قبل أن تُحوَّل إلى الحبس المنزلي.

سُمِح لها، الاثنين، في الثاني من مايو، للمرّة الأولى، بالخروج من المنزل لمدّة ساعتين في نهاية الأسبوع، دارين واحدة من عشرات اعتقلوا في الأراضي المحتلة عام 1948، مع بدايات أحداث »انتفاضة السكاكين« في الضفّة، على خلفيّة منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي.

افتتحت النيابة معركتها بعرض »الورقة الرّابحة« التي في يدها، أي القصيدة التي تتمحور حولها لائحة الاتّهام. كلّ شيء، تقريباً، موجود في عنوان القصيدة: »قاوِمْ يا شَعبي، قاومْهم«. وقبل تقديم إثباتاً حول مصدر القصيدة، أو نصّها الأصلي باللغة العربية، عرضت النيابة القصيدة مترجمة إلى اللغة العبرية.

قدّم لنا العرض، شرطي من محطّة شرطة الناصرة، شاء حظّه أن تلقى عليه مهمّة ترجمة القصيدة. كيف لا، وهو يتمتّع بخبرة 30 سنة شرطة؟، كان يبدو عليه أنّه قام بمهمّة الترجمة بإخلاص تامّ، ضمن حدود قدراته.

الشاهد الشرطي المترجم الناقد الأدبي، سحَبَنا معه إلى أعماق القصيدة، تقول رجاء زعبي التي ترجمت التقرير عن المحاكمة من العبرية، لنفهم (أو لا نفهم) مغازيها الكامنة هناك، وذلك من خلال أبيات قليلة اختارها لنا. ولكن، خسارة كبيرة، أنّه ليس مسموحاً تصوير الجلسة، لإظهار التفاصيل الصغيرة الدقيقة في رحلة المترجم عبرَ النصّ.

في بيت في القصيدة ترد كلمة »نَدّ« (بالفتحة) يؤكّد الشرطي، وتعني في اللغة العربية (الخطوط المتوازية) يفسّر الشرطي. ولكنّ الخطوط المتوازية لا تلتقي أبداً يشرح لنا الشرطي. هنا يتعمّق الشرطي في التأويل قائلاً: ولذلك، فالندّ هو الخصم، بل يمكن القول إنه الخصم القويّ.

حنين زعبي المناضلة الحقوقية الفلسطينية من داخل الكنيست الصهيوني، والتي كانت ضمن الحضور في القاعة، لم تتمالك نفسَها، وتدخّلت قائلة إنّ الكلمة باللغة العربية هي نِدّ بالكسرة. فطلبت منها القاضية ألاّ تعرقل سير المحاكمة.

وفي مكان آخر، يشرح الشرطي أنّ القصيدة تتحدث عن »غزوات« لن تقلّ. والغزو، يعلّمنا الشرطي، هو من عادات القبائل العربية ما قبل الإسلام، حيث يهاجمون جيرانهم ويسلبون ممتلكاتهم ويستعبدون نساءهم وأطفالهم!!. هنا، نكون قد وصلنا إلى واحدة من ذروات عالم الشعر. جمهور الحاضرين في القاعة كان مأخوذاً، يتلوّى بين الذهول والضحكات المكتومة.

لم تجد »دولة إسرائيل«، في سعيها إلى سلب حرّية الشاعرة، لم تكلّف نفسها حتى الاهتمام بترجمة مهنية للقصيدة التي هي محور لائحة الاتّهام، علماً بأنّ القصيدة، حتى بالترجمة المريعة التي قدّمها الشرطي، لم تحتوِ على أي بيّنة تستدعي الاعتقال.

شاهد آخر، يُدعى رامي، كان أوّل من حقّق مع دارين في محطة شرطة الناصرة، صباح اعتقالها. وهو يذكر في محاضِره، أنه دخل للتفتيش في صفحات الفيس بوك الخاصّة بدارين، بواسطة هاتفها المصادَر بعد أن استأذنها وسمحت له بذلك. وبالطبع، قدّم هو أيضاً ما تيسّر من الترجمات لصالح »القضيّة«.

أثناء عرض الصور، اهتمّ المحقّق الشاهد بأن يكشف أمام المحكمة، الـ »ستاتوس« التالي: »جنود الاحتلال أطلقوا النار على إسراء عابد في العفولة. وضعها مستقرّ. الحمد لله على سلامتها«. المسألة واضحة، هنالك مواطنة فلسطينية أطلق جنود الاحتلال النيران عليها دون ذنب جنته، وإذا كنت لا تتمنّى لها الموت، فأنت إذن تقوّض أسس الدولة الصهيونية.

القبض على دارين، واعتقالها المنزلي الذي ما زال مستمراً في بيت شقيقها في ضواحي يافا، وإجراءات المحاكمة بحقّها كلّها تستند إلى بيّنة أساسيّة، تعتبَر بحدّ ذاتها جريمة في الديمقراطية اليهودية:

إنّ دارين عربية فلسطينية. ولنا أن نسأل العالم الذي صمت على اغتصاب فلسطين عام 1948، ألم تخجل بعد أيها العالم من الجرائم التي ترتكبها وتمعن في ارتكابها إسرائيل بحق الفلسطينيين، نساءً وأطفالاً ورجالاً، و... قصائد!!
عن البيان الاماراتية