نائمٌ هو الآن، بقوة نائم؛ فالغرباء لم يدخلوا رام الله اليوم ليهرع إليهم، هو الذي ينتظرهم على مفارق الطرق جائعاً ومفضوحاً؛ ليدلّهم - بإنكليزيته العرجاء - على المطاعم والمؤسسات والقرى المحاذية للجدار. فيما بعد سمّاه أصدقاؤه (صديق الغرباء العابرين الجائع).
هو يعرف أنه ميت منذ زمن طويل، وأن السنوات التي يعيشها الآن، ما هي إلاّ تفاصيل كابوس يعيشه بائع البطيخ السمين، ذلك المتكرّش الذي طالما نام القديس في خيمة بطيخه المحاذية لشارع الإرسال في أصياف سابقة، واضعاً رأسه الأصلع - الذي أكلته الفطريات - بجانب البطيخ.
مرةً من المرات نسي القديس رأسه، وهرب إلى الحقل القريب، بعد أن هبّ فزعاً على ضجيج شاحنة تمر بسرعة، وعاد بعد ساعات ليجد أن البائع باع رأسه مع عدد من البطيخات إلى تاجر عابر.
أين رأسي؟ أين رأسي؟ هل شاهد أحدٌ ما رأسي؟ كان يصيح في الطرقات هائماً على غباره.
في غرفته المليئة بالمسروقات من كتبٍ وتحفٍ ومعلباتٍ وكراسٍ، في الطابق السابع من عمارةٍ كالحةٍ مرشّحة للانهيار عند أول سعالٍ للزلزال المقبل، جلس قديس الغبار يمتصُّ آخر أنفاس أرجيلته المتهتكة، في الخارج كانت رام الله تموت بالرصاص والنساء المكابرات والباسمات، فجأةً دخل رجلٌ أنيقٌ تفوح العطور من صوته، اعتذر الأنيق الـمعطّر مرتبكاً، فقد دخل غرفة القديس خطأً، لكن القديس الذي يتعربش الهواءَ أصرّ على استضافته من باب قتل الوقت أولاً، والرغبة في الاحتكاك بالحضارة البعيدة ثانياً، وتفحص عبثي لدنيا النظافة ثالثاً، كان القديس يبدو نمراً أعمى حزيناً يتشمّم جدار مؤسسة رخامياً، بعد أن ضلّ الطريق إلى المدينة، وتخلى عنه رفاقه النمور، لم يكن يعرف أن هذا الشخص المعطّر المستقيم كان أحد كوادر فصيل فلسطيني كبير وأنه كان قادماً من مدينة بعيدة؛ ليشارك في مشاورات حكومة الوحدة، وأن المكتب الذي كان الرجل قادماً إليه يقع في الطابق الثامن.
كيف عرفنا أن القديس ارتكب فعلاً شنيعاً ؟ انظروا إليه: ها قد تناول زجاجة ماء الرجل المعطّر المرتبك وشربها أمامه، ثم رفع قدمه التي التصقت بباطنها طبقة سوداء سميكة من القذارة الأرضية، وراح يهزّها في وجهه، دون أن يدري أنه يقوم بفعل مزعج.
الرجل السياسي المستقيم مثل مسطرة والقادم من هناك ليتفاوض من أجل حكومة الوحدة، خرج من غرفة القديس متمتماً وشبه ضاحك، القديس واصل حياته العادية، وكأن شيئاً لم يحدث، نفض الغبار عن بطنه بقطعة قماش، ثم كحّل عينيه بها، مشّط شعره بحجر طري شبه مبلول، ذهب إلى الحمام، تبوّل غباراً وخرج، غسل وجهه بالغبار ثم جلس على الشرفة يتناول فطوراً مكوّناً من كومة غبار نقيّة كمشها بيده اليمنى ليلة البارحة بلذة من بقايا ورشة بناء مجاورة لبيته، عاد إلى الغرفة، أطلّ من نافذته، لبس قميصه المغسول بالغبار، تأمل بنطاله النظيف المكوي الذي أعاره إياه جاره شفقةً عليه، فاشمأز؛ لعن الماء والمكواة - عدويه اللدودين - قبل أن يخرج، أطلق تثاؤباً طويلاً صعق جسد المدينة، فرقصت كل حبة غبار في رام الله هياجاً فرحاً، فسيّدها ونبيها وقديسها يستعد للخروج، كان يظن نفسه الأكثر قابليةً للخلود، والأجدر بالانتباه والأنقى، رغم كل الغبار الذي يسكن روحه ويلعق جسده، كان حزيناً أيضاً؛ فالغرباء لـم يدخلوا رام الله اليوم.
بعد أيام قليلة، تناقل الناس خبراً غريباً عن رأس بشري أصلع ومدمى يتقاذفه بمرح وإثارة أطفال حارة ما من حارات رام الله.