نمر القدومي " زغرودة الفنجان"

thumbgen
حجم الخط

أضافت الظّروف القاسية أدبًا مميّزًا حديث العهد، يكتبه أشخاص بواسل ذوو عزم وقوّة، إقدام وشجاعة، وفكر وإرادة؛ القضبان هم شرط الحكاية، والمحفور في الوجدان هو عقدة القصّة، أمّا السّجان فهو الموسيقى الدّراميّة القاتلة. الكاتب المناضل الفلسطينيّ "حسام شاهين" جسّد ما نعلمه وما لا نعلمه على أرضيّة واضحة، وجعل دلّة القهوة تُشاكس فنجانها وتُحدث صوتًا ذا مذاق سماعيّ نطرب عليه في الأفراح، ويواسينا في الأتراح، ونرتشفه على نشوة الإنتصار. "زغرودة الفنجان" رواية جريئة جدًا، وُلدت من داخل جدران مقفرة، كشفت عن فداحة أعمال الإستخبارات الإسرائيليّة "الشاباك" في حق شبان وشابات الإنتفاضة الفلسطينيّة الثّانية. تقع الرّواية في 309 صفحة من الحجم المتوسط الصّادرة عن دار الأهليّة للنّشر والتّوزيع في الأردن للعام 2015، وقد قدّمها للقارئ الإعلاميّ والشّاعر اللبنانيّ " زاهي وهبي" الذي مرَّ في تجربة الإعتقال في السّجون الإسرائيليّة. إنَّ أدب السّجون المُشار إليه، إنما خرج إلى النّور من رحم المعاناة، وصَدَحَ في ردهات المعتقلات وزنازينها، أن العاقبة للظالمين المُحتلين ومعاونيهم!

الرّواية إجتماعيّة دراميّة في إطار سياسيّ تستعرض المناورات القتاليّة بين التنظيمات الفلسطينية المحليّة وبين الإحتلال الإسرائيلي. ترتكز مجرياتها على عملية إسقاط فئة الشّباب من جانب "الشاباك" من أجل التعاون والتخابر معهم، وذلك في إشارة مَقيتة من الكاتب إلى خطورة تفكك النّسيج الإجتماعي الفلسطينيّ، بسبب الفقر والحاجة والضغوطات الحياتيّة. يُسهب "شاهين" في رصد التفاصيل الدقيقة لأساليب الإسقاط، ويُحدّثنا عن الكيفيّة التي تجري بها تجنيدهم؛ إما عن طريق الإغراءات المالية، أو مستمسكات جنسيّة فيها المذلّة بين الأهل والعشيرة، والتي قد تؤدي في أحيان كثيرة إلى القتل. وصَفَ لنا بالكلمات والصّور، وفي بلاغة إباحيّة فاقت التخيّلات، تورّط مجموعات من طبقات وفئات متفاوتة من شرائح الشّعب، تورّطهم في مستنقع العمالة بطريقة الخداع والتّنويم والتّصوير ومن ثم الإبتزاز. كما يُظهر لنا واقع المخيّم السّوداوي وظواهر تقشعر لها الأبدان، وترفضها كل معايير الأخلاق.

"مازن" تلك الشّخصيّة التي اضطرّت، بسبب الحاجة ودناءة النّفس البشريّة، إلى العمل مع الإستخبارات في جمع المعلومات عن المقاومة، وكذلك تجنيد أكبر قدر ممكن من العملاء من خلال ما أعطوه مشغّلوه من أدوية تخدير وأجهزة تصوير وفيديو. كما أوقع "مازن" أو توهّم أنه أوقع بابنة المخيّم "رحاب" تلك المرأة الرّهيبة والشّهوانيّة، وهي بدورها ساعدته في إسقاط آخرين وأخريات. وقد اكتشف لاحقًا أنها خدعته، وأنها كانت عميلة نشيطة من قبله وصاحبة علاقات حميمة مع الكابتن "مودي". هذا الميجر جنرال هو رأس الأفعى الصهيوني ورجل "الشاباك" التي تلطّخت يداه بدم الأبطال الشهداء، تفوح رائحته النتنة عبر صفحات الرّواية، ويعمل كالسرطان في خداع الفلسطيني الموجود في تحوم صلاحيته ونفوذه، ويتمادى في الشتائم ونصب المكائد والإغتيالات لأفراد المقاومة.

إستخدم الكاتب "شاهين" اللغة البسيطة في روايته وأحيانًا المحكيّة منها لضرورة النّص، وقد غلب عليها أيضًا لغة الحوار بين الشّخصيات. احتوى مضمون الرّواية العديد من الحكايات المترابطة، إلاّ أنَّ الكاتب استطاع أن يسيطر على مجريات أحداثها الزمانيّة والمكانيّة وكذلك دَور أبطالها. أمّا تقاطع الأحداث، فقد خلق من تلقاء نفسه الحبكات المتلاحقة، وتأجّجت لدى القارئ عاطفة الحقد والكراهيّة وحُب الإنتقام، وبات ينتظر بين السّطور المشاهد التي تشفي وتثلج صدره. لم يكن للخيال وجود، سوى بعض الأمور اللا منطقيّة التي أحاطت بتحركات بعض الشّخصيات، وكأنَّ المخيّم "الوهمي الإسم" هو وكر، وكل غرف النّوم فيه عبارة عن استوديو بتقنيات عالية. ومما لا شك فيه أنَّ كاتبنا قد أغفل عينًا عن التّفاصيل الإباحيّة الجريئة والسّاخنة، فأعطى بذلك تلك الفكرة السيئة جدًا أن حياة الشّعب الفلسطيني ونسيجه الإجتماعي المتهتك. فمن خلال الرّواية طُرحت أفكارًا ثوريّة وأخرى فلسفيّة ونفسيّة، تشدُّ من أزر المقاتل وطُرق التّعامل مع العدو. ومن ناحية ثانية، فضح جميع الآفات الإجتماعيّة وطبيعة تفكير الفرد، ومستوى الإنحطاط والتردّي الذي وصلت إليه فئات من هذا الشّعب. لقد طرح على مائدة النّقاش مشاكل وقضايا خطيرة تراكمت على مرِّ سنين الإحتلال، وأحدثت هوّات وفجوات عميقة على أرض الواقع.

"مازن" يستنجد بصديق قديم له من المقاومين، ويعترف لمنقذه "عمر" بكل أعماله القذرة طالبًا التوبة، وذلك بعد أن شعر بأنّ الخطر يتهدّد زوجته وأولاده، وأنَّ المياه باتت تجري من تحته. نظّف صحيفته وضميره بقتل الكابتن "مودي" وإستشهاده. إلاّ أنَّ حساباتنا للأسف تسير وفق قاعدة مُتعفّنة بأننا نهدر أرواحًا كثيرة مقابل خنزيرًا واحدا، ولا نُولي قيمة لحياة شعبنا. أمّا هذه الرّواية الجريئة من نوعها، فهي صدى لما يجول في خاطر الكاتب "حسام شاهين" وجوارحه، وما سكن قلبه من تأثير ظروف السّجن، ليخرج للملأ كإنفجارٍ مدوٍّ أصاب البعيد والقريب.