فى إحدى المسرحيات الكوميدية وقف صاحب العقار أمام القاضى ليسألة والحيرة بادية على وجهه «هل نقفل الشباك ولا نفتح الشباك.. كده متغرمين وكده متغرمين.. طب نعمل إيه؟» تذكرت هذا الموقف المرح، الذى هو موجود فى حياتنا العادية أثناء استعراض بعض ردود الفعل على زيارة وزير الخارجية سامح شكرى إلى إسرائيل ولقائه رئيس وزرائها نتنياهو، وسببها المعلن رغبة ومبادرة مصر فى تنشيط عملية التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين بعد توقف أكثر من عامين، إضافة إلى بحث بعض ملفات العلاقات الثنائية وفقاً لما ورد فى بيان وزارة الخارجية، وهى عبارة تعنى تبادل الآراء فى كل ما يهم مصر أن تعرفه أو تضعه أمام قادة إسرائيل كحقوق ومبادئ لا يمكن التنازل عنها، وبهذا المعنى فنحن أمام تطبيق حرفى لمقولة إن السياسة هى فن الممكن، لكن البعض لا يرى الأمور على هذا النحو، ويعتبر الزيارة كهدية من السماء إلى إسرائيل، وأن مصر قدمت فيها طوق نجاة لنتنياهو فى وقت يتعرض فيه لمتاعب قضائية داخلية، وأن مسألة تنشيط السلام هى مجرد غطاء للزيارة وأنه لن يحدث شىء جدى يعيد للفلسطينيين حقوقهم المشروعة.
الانتقادات السابقة للزيارة وغيرها كثير ليست مرفوضة بالكلية، ولكنها أيضاً لا تقدم جديداً، والاستناد إلى مبرراتها يعنى أن يبقى الحال على ما هو عليه؛ أى جمود فى التفاوض، زيادة مستمرة فى الاستيطان وقضم الأرض الفلسطينية، استمرار معاناة الفلسطينيين، لا مبالاة دولية بشأن ما يمكن عمله لاستعادة المفاوضات على أرضية جادة، والمحصلة تدهور فى مكانة القضية الفلسطينية وتراجع فى الاهتمام بها عربياً وإقليمياً ودولياً، وكما رأينا فى الأعوام الأربعة الماضية حين انغمست مصر فى شئونها الداخلية وضاعت منها البوصلة، ونشأ فراغ إقليمى سياسى كبير أحاط بالقضية الفلسطينية دفعها إلى التراجع فى الأولويات الدولية والإقليمية على السواء، وساعد على مزيد من التراجع الفلسطينى الانقسام الذى سببته حركة حماس منذ العام 2007 ولم تسع يوماً بجدية لرأب الصدع مع الفرقاء الآخرين على النحو الذى تفرضه طبيعة الصراع مع إسرائيل والقوى الكبرى التى تساندها بلا حدود، وفى ظل هذه المعطيات لم يكن هناك ما يدفع واشنطن وسيد البيت الأبيض أوباما ووزير خارجيته كيرى إلى وضع الملف الفلسطينى فى بؤرة اهتمام ولو شكلية كما كان يحدث فى العقدين الماضيين، ومع أول ممانعة من نتنياهو لطلب الرئيس أوباما بوقف الاستيطان أثناء التفاوض مع الفلسطينيين برعاية أمريكية ومساندة من الرباعية الدولية مطلع العام 2014، ابتعد أوباما تماماً عن الملف الفلسطينى وتركه لحاله، مستفيداً من حالة السيولة العربية وانغماس الدول العربية الكبرى فى شئونها الداخلية وعلى قمتها مصر والسعودية، وكذلك الانقسام الفلسطينى.
هذا الفراغ الإقليمى بكل أسبابه العربية والفلسطينية هو ما دفع البعض إلى محاولة أن يصادر الملف الفلسطينى لحساباته الخاصة، وعلى رأسهم تركيا أردوغان وقطر تميم، ليس من أجل القضية الفلسطينية فى حد ذاتها، وإنما مناكفة فى مصر وتوظيفاً لانغماسها فى شأنها الداخلى، الذى قَيّد تحركاتها الخارجية، وسعياً وراء أمجاد ثبت يقيناً أنها زائفة وخادعة ولا تعدو أن تكون وهماً، والدليل القاطع ما حدث مؤخراً من تطبيع تركى مع تل أبيب جسد تنازلات كبرى بشأن رفع الحصار عن غزة وملف المفاوضات وغيرها من الأمور التى ادعى أردوغان حرصه عليها واهتمامه المبدئى بها، ولكنه تجاهلها بكل أريحية وبلا ذرة من خجل.
حالة الفراغ الإقليمى بشأن القضية الفلسطينية ترافقه تحولات متسارعة فى كثير من معادلات التوازن الإقليمى بوجه عام، وكثير منها يؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة على المصالح المصرية الكبرى، وزيارة نتنياهو لعدة دول أفريقية قبل أسبوعين وتأييد بعضها عضوية إسرائيل كمراقب فى الاتحاد الأفريقى خير مثال، والثابت أن كلاً من العراق وسوريا كفاعلين إقليميين كما كان الوضع سابقاً قد خرجا وإلى أمد بعيد من هذه المعادلات الإقليمية الجارى إعادة هيكلتها، فكلاهما فاقد لحرية اتخاذ القرار ولديه ما يكفيه من مشكلات سياسية وقانونية ومجتمعية وحروب أهلية وفساد وقتلى ومصابين لا حدود لأعدادهم، فضلاً عن مواجهة تنظيمات إرهابية عاتية عابرة للحدود وللأسف الشديد تحصل على دعم غير مسبوق من قوى رئيسية فى الإقليم لحسابات سياسية مرتبكة وقصر نظر مُحكم، وكل ذلك يدفع لمزيد من تراجع القضية الفلسطينية فى سلم الأولويات الإقليمية والدولية، وهناك أيضاً انغماس روسيا فى الأهوال السورية حرباً وسياسة، واستمرار التجاهل الأمريكى للملف الفلسطينى، وتقاعس الرباعية الدولية عن القيام بدور جدى بل إن بيانها الأخير يدين الفلسطينيين وهم الضحايا ويتجاهل إسرائيل وهى الجانى، وبما يدفع إلى مزيد من فقدان الأمل للشباب الفلسطينى، وبالتالى فرص أكبر للانخراط فى أعمال عنف غير منظمة، كالتى حدثت بالفعل فى صورة هجمات فردية بالسكاكين ضد جنود أو مستوطنين إسرائيليين، الذى وظفته إسرائيل لمزيد من تشويه صورة الفلسطينى باعتباره قاتلاً ولا يحترم حقوق الآخر ولا يستحق سوى الموت!
هذه البيئة الإقليمية إن تُركت على حالها لعامين أو ثلاثة أو أكثر دون أى تدخل لإعادة تصويب بعض مساراتها ستقود إلى مزيد من تلاشى الحقوق الفلسطينية ومزيد من القيود على كل صنوف التحركات الفلسطينية سلماً أو عنفاً، ومزيد من الاضطراب فى التعامل مع ملف الإرهاب الدولى، وبالتالى مزيد من الأثمان غير المحببة التى تدفعها شعوبنا على مضض، فى ظل وضع كهذا ثمة خياران، أولهما خيار الاستكانة والبقاء محلك سر، أى خيار «العين بصيرة واليد قصيرة»، وثانيهما خيار الاشتباك والمناكفة مهما كانت الصعوبات وتوظيف كل ما يمكن توظيفه من مناورات سياسية ودبلوماسية وأوراق ضغط مهما كانت محدودة، واستغلال الثغرات التى لدى الأطراف الأخرى من أجل حلحلة الموقف والسيطرة النسبية على بعض مساراته وحتى لا تكون جميعها مناوئة لمصالحنا وأهدافنا، والخيار الأول هو السائد والعنوان الرئيسى لمعظم التحركات العربية، والنتيجة باتت معروفة كل يوم تراجع وكل يوم مزيد من الاستنزاف الذاتى، والخروج من هذه الدائرة مرهون بخيار الاشتباك والمناورة، والدلالة الحقيقية لزيارة سامح شكرى لتل أبيب أنها تجسد هذا الاختيار رغم ما فيه من صعوبات لا يمكن التغاضى عنها أو إنكارها، ولكن هذا هو قدر مصر أن تفتح دائماً أبوابها مهما كانت الرياح حولها.
عن الوطن المصرية