لا أجد مبرّراً لتدنّي مستوى اهتمام وسائل الإعلام الفلسطينية، خصوصاً التلفزيونية، بمجريات الأحداث التي تضرب تركيا منذ مساء الجمعة الماضي، وهي أحداث استحوذت على اهتمام مُركّز من قبل الإعلام الدولي، بل والسياسات الدولية.
تركيا دولة كبيرة، دولة إقليمية، وتتمتع بفعالية وتأثير كبيرين على مستوى المنطقة العربية بما في ذلك الوضع الفلسطيني سواء في أبعاده الوطنية الداخلية أو في أبعاده الوطنية، التي تتصل بالصراع مع الاحتلال. ومن موقعها الاستراتيجي بين الشرق والغرب، وجسر التواصل بين آسيا وأفريقيا والقارة الأوروبية، فإن طبيعة النظام السياسي فيها تنطوي على خصوصية فردية، وتوفر تجربة يندر أن تجدها في دولة أخرى.
بعض المحللين السياسيين والعسكريين استعجل في تقييم مجريات الانقلاب الفاشل، خلال الساعات الأولى، التي بدا فيها وكأن الانقلابيين قد سيطروا على الأوضاع، فاستنتج هؤلاء أن ما يجري في تركيا هو الزلزال الكبير بل الأكبر الذي يضرب منطقة الشرق الأوسط.
هو زلزال نعم ولكن بدرجات غير مدمّرة، طالما أن النظام السياسي تمكن وبسرعة قصوى من إفشال الانقلاب، واستعادة السيطرة على الأوضاع.
في الواقع وبالرغم من خطورة المحاولة، ودون غض النظر عن أسبابها ودوافعها، والقوى الخارجية الداعمة بالرغم من ذلك، فقد كان من الصعب على مجموعة حتى لو كانت أكبر أن تحقق مرادها في إسقاط النظام.
أحد عشر عاماً، منذ تسلم حزب العدالة والتنمية التركي مقاليد الحكم بصورة متواصلة، كانت كافية لإحداث تغييرات عميقة في بنية الجيش والمؤسسات الأمنية والمدنية، فلا قيادة الجيش اليوم هي قيادته خلال القرن الماضي، ولا الأجهزة الأمنية هي ذاتها، وحتى المؤسسات المدنية.
اعتمد حزب العدالة والتنمية سياسة الصبر، والتغيير المتدرج حيث استفاد، من خبرات النظام العلماني السابق، حتى تمكن من بناء خبرات جديدة تحل مكان الخبرات القديمة غير الموثوقة.
حين كنت مع بعض الزملاء في تركيا توجهنا بسؤال لأحد المسؤولين الكبار في الحزب والدولة، حول كيفية تعامل الحزب والنظام مع السلك الدبلوماسي كنموذج فكان جوابه أن الحزب أبقى على أصحاب الخبرة، بضمان السيطرة على القرار، حتى يتسنى للحزب تنمية خبرات جديدة.
ثمة ما يحتاج إلى مراجعة من قبل القيادة التركية، مراجعة تطال السياسة الخارجية، وتطال العلاقات والتحالفات الدولية، والإقليمية وربما تصل المراجعة إلى هُويّة تركيا كدولة كبيرة خاضت تجربة طويلة في صياغة هُويّة متميزة تتناسب وموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وتطلعاتها الاستراتيجية، فضلاً عن الحاجة لمراجعة مخلفات النظام السابق التي حافظ نظام العدالة والتنمية على التمسك به.
قبل وقوع الانقلاب الفاشل بقليل كانت القيادة التركية قد بدأت بعملية مراجعة وتصحيح لبعض مسارات العلاقات الخارجية، فاستعادت العلاقة مع إسرائيل، وبدأت باستعادة العلاقة مع روسيا، وبدأت تتحدث عن سياسة جديدة تجاه سورية والعراق، هذه المراجعة كانت ضرورية جداً بعد أن انفجر الكثير من الأزمات في وجه النظام السياسي، وعكست كثيراً من الارتباك في السياسة التركية التي سبق أن طرحت صفر أزمات فوجدت نفسها أمام أزمات صعبة كثيرة من بين عناوينها الكثيرة، ما يتصل بالعلاقة غير السوية مع الولايات المتحدة الأميركية ومع الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو.
في محاولة الانقلاب الفاشلة تجد تركيا نفسها في تعارض شديد وعلاقات متوترة، مع الولايات المتحدة، التي تشير المعطيات الأولية إلى أنها الطرف الذي يقف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، التي تتحدث السياسة التركية عن مسؤولية الداعية فتح الله غولن عنها.
فتح الله غولن أميركي من أصل تركي، وما كان له أن يبني تنظيمه السري واسع الانتشار، بعيداً عن الولايات المتحدة وأجهزتها السياسية والأمنية.
هل تكتشف تركيا القيادة أن وجودها في حلف الناتو، وعلاقتها التاريخية الوثيقة بالولايات المتحدة، وحليفتها الأساسية إسرائيل لا يخدم مصالحها، وان هذه الأطراف تسعى فقط لإخضاع الآخرين لاستراتيجياتها، وانها لا تقبل أن يلتزم الحلفاء سياسات مستقلة؟ بالتأكيد تدرك القيادة التركية أن الولايات المتحدة تتحمل قدراً من المسؤولية عن تمنع الاتحاد الأوروبي عن قبول عضوية تركيا فيه رغم أنها أقوى وأهم من معظم دول الاتحاد.
في سؤال الهُويّة نطرح السؤال التالي: هل يمكن لتركيا أن تبنى هُويّة خاصة، تقوم على التطلع نحو أن تكون دولة أوروبية، ودولة مشرقية في الوقت ذاته؟ وهل يمكن أن تستمر هذه الازدواجية حيث النظام السياسي علماني وملتزم بدستور علماني ومجتمع إسلامي؟ ما هي هُويّة الدولة التركية بالضبط، وهل تنسجم تطلعاتها ومصالحها، مع تطلعات ومصالح حلفائها الذين توارثتهم عن أنظمة سابقة؟ إذاً في أي اتجاهات ستقع ارتدادات الحدث التركي الكبير؟ ولكن لأن المقام لا يتسع لكثير من التفاصيل والأسئلة، علينا نحن العرب أن نجيب عن سؤال مهم وهو كيف وبأي أدوات ووسائل تمكنت القيادة التركية من إجهاض المحاولة الانقلابية؟ كجواب أولي هي الديمقراطية الراسخة والإيمان الحقيقي العميق بالجماهير، وهو ما ينقص النظام العربي الذي يعاني وسيظل يعاني من المزيد من الزلازل.
أسئلة اللحظة والإجابات المُرجّحة
12 أكتوبر 2023