الانقلاب الفاشل، وانفصام الشخصية العربية

عبد الغني سلامة
حجم الخط

نتفهم الاهتمام الكبير لما حدث في تركيا؛ لأنها دولة مهمة جداً في المنطقة، لكن الغريب هو حجم التفاعل العربي الكبير وغير المسبوق مع الانقلاب، وخاصة في الأردن وفلسطين، وكأنَّ الحدث وقع في جبل عمّان أو في رام الله! حتى أن «مشير المصري» تبرع بدم أبناء غزة ليُراق على شواطئ تركيا!
ويبدو أن الشعوب العربية لن تتوقف عن صناعة الزعيم، وتحويله إلى صنم، سواء باستحضار أبطال من التاريخ، أو باستيرادهم من خارج المنطقة؛ فهي مصابة بعقدة غياب الزعيم، وما زالت تتوهم أن الزعيم هو الوحيد الذي بيده الحل السحري لكل مشاكلنا؛ لذلك، خرجت الجماهير العربية رافعة صور «أردوغان» ومسبّحة بحمده! بينما رفعت الجماهير التركية علمها الوطني فقط!
وليس هذا هو المظهر الوحيد لأمراض العقلية العربية، التي تعاني أيضا من حالة مستعصية من الانفصام في الشخصية؛ فمشكلة المحللين العرب (سواء الهواة، أو المحترفون) ليست فقط في تسرعهم بإصدار الأحكام، حتى قبل أن تتضح الحقائق، بل في مزجهم بين رغباتهم الدفينة وبين النتائج التي تحصل على أرض الواقع بناءً على معطيات حقيقية.. وأيضا ازدواجية المعايير التي يحتكمون إليها، وهذا الأمر افتضح تماما في وسائل الإعلام الرسمية والاجتماعية.
فالجماهير حاكمت «أردوغان» وبنتْ مواقفها استناداً إلى معاييرها الخاصة فقط، ولم تدرك أنه لا يعمل إلا وفق المصلحة التركية، حتى لو أتت على حساب المصالح العربية.. وهذا النمط من التفكير ينطبق على مؤيدي «أردوغان» ومعارضيه.
مؤيدوه اعتبروا إفشال الانقلاب نصراً للإسلام، وهزيمة للعلمانيين، حتى قبل أن يتبينوا هوية الانقلابيين وتوجهاتهم.. علماً أن حزب العدالة والتنمية يعتبر نفسه حزبا علمانيا، ويتجنب رفع الشعارات الإسلامية، بل إن مظاهر الحياة التركية علمانية، وفي بعض المناطق لا تختلف عن أوروبا بشيء.. ومن ناحية ثانية، فإن المتهم الوحيد بتدبير الانقلاب (حسب الخطاب الرسمي التركي) هو «فتح الله غولن»، وهو داعية إسلامي، وأستاذ مؤسس للإسلام السياسي التركي، وبالتالي إذا صح الاتهام، فإن الانقلاب مجرد صراع بين أجنحة إسلامية متنازعة.
العقلية العربية رغائبية؛ تُسقِط أمنياتها على الواقع؛ فهي تتوهم أن الأتراك يحبون «أردوغان» لأنه إسلامي.. بينما الحقيقة غير ذلك؛ فالأغلبية التركية أحبت «أرودغان» وانتخبته مرتين لأنه كان يعمل لمصلحة بلدهم، منذ كان رئيسا لبلدية إسطنبول، ولأن البلاد خلال فترة حكمه شهدت حالة من الاستقرار الأمني والسياسي، نجم عنها نمو اقتصادي كبير، انتقلت فيها تركيا من دولة مدينة إلى دولة تتربع على قائمة الاقتصاديات الأولى على مستوى العالم، وازدهرت فيها الحركة التجارية والصناعية، وشكلت حالة جذب فريدة للاستثمارات والسياحة.. لذلك، لم تخرج الجماهير التركية محبة في شخص «أردوغان»، بل خرجت دفاعا عن نمط حياتها الذي ارتضته لها في ظله، ودفاعا عن حالة الاستقرار والسلم الأهلي، ولم ترفع صوره.
أحزاب الإسلام السياسي العربية تغنّت بتجربة حزب العدالة والتنمية، واعتبرتها أنموذجا لنجاح الإسلاميين في الحكم.. وفي نفس الوقت تمتنع عن فهم الأسباب الحقيقية لهذا النجاح؛ فحزب العدالة لم يكن معنياً بالقشور التي تركز عليها الأحزاب الإسلامية العربية، وخلافاً لها، أثبت حزب العدالة أنه وسطي، ومعتدل، سواء في برامجه الاجتماعية الداخلية، وعدم تعرضه للحريات الشخصية، أم في سياساته الخارجية البراغماتية.
والإسلاميون العرب (وكذلك العلمانيون) فجأة صاروا كلهم ديمقراطيين، وحريصين على الديمقراطية التركية، بينما أدبياتهم وممارساتهم على الأرض عكس ذلك تماما.. كما أجمعوا على أن الديمقراطية هي التي حمت تركيا من الانقلاب، ولكنهم في نفس الوقت تفهّموا إجراءات «أردوغان» غير الديمقراطية، وفرحوا بها.. وأيدوا استغلاله للحدث، باتخاذه سياسة التطهير، والإقالات، والاعتقالات، والحديث عن إعدامات، وإعادة هيكلة الدولة بلون واحد (اللون الموالي)، وحتى محاولاته تغيير الدستور.. وهي إجراءات تتناقض كليا مع الديمقراطية.
كما تعامى محبو «أردوغان» عن رؤية بعض الحقائق في سياساته الخارجية؛ فتركيا أولا أهم حليف لأميركا في المنطقة، ولديها أكبر جيش في حلف الناتو (يعني أنها ذراع للإمبريالية)، وفيها قاعدة «إنجيرلك» التي منها انطلقت الطائرات الأميركية لقصف العراق، ولتركيا علاقات ممتازة مع إسرائيل، وفي الصفقة الأخيرة باعت غزة بالمجان، وتخلت عن مطلبها برفع الحصار. وتركيا فتحت حدودها لداعش، وتبادلت معهم تجارة النفط، وتدخلت في سورية بشكل مدمر، وقمعت الأكراد بكل قسوة... حتى أنها اعتذرت عن إسقاط الطائرة الروسية التي كانت تقصف سورية.. كل هذا مغفور له، ومقبول.. فقط لأن تركيا تمثل الملاذ الأخير لجماعة الإخوان المسلمين!!
البعض عارض الانقلاب من حيث المبدأ، لكنهم تناسوا أنهم أيدوا انقلاب حماس في غزة، ولو حدث انقلاب مشابه في إيران مثلا، فمن المرجح أنهم سيفرحون به.
وفي المقابل، تعاملت النخب العربية بانتقائية غريبة وبمعايير مزدوجة مع الانقلاب، خصوصا أولئك الذين يدعون إيمانهم بالقيم الديمقراطية والحكم المدني؛ فكانوا في دواخلهم يتمنون نجاح الانقلاب، وعودة حكم العسكر.. وهذه قمة التناقض؛ فلا يمكن لأي إنسان ديمقراطي أن يؤيد الانقلاب، مهما كانت مسوغاته.. إلا إذا كانا مصابا بالانفصام..
كما أجمع المحللون العرب على مقولة «الجماهير هي التي أفشلت الانقلاب»، وفي الحقيقة أن الانقلاب كان محكوما عليه بالفشل منذ لحظاته الأولى؛ بسبب عدم وجود أي مبرر له؛ فتركيا تشهد تطورا واضحا على كافة المستويات، ولم تشهد أي حالة استعصاء سياسي أو اقتصادي، أو توتراً داخليا يوجب انقلابا.
ولأن أحزاب المعارضة لم تؤيده؛ ليس لأنها تفاجأت فيه وحسب؛ بل ولأنها متعايشة مع النظام، ولديها القدرة على تولي السلطة عن طريق الانتخابات، التي أخذت تترسخ كنهج دائم، كما أن للأحزاب تجربة سيئة مع حكم العسكر.
ومن ناحية ثانية؛ فإن الطبقة البرجوازية والوسطى في البلاد غير متضررة من نظام الحكم، بل مستفيدة.. أما الأقليات، وخاصة الكردية، فعلاقتها أصلا مع الجيش سيئة، وبالتالي من غير المحتمل تأييدها له.
والأهم من ذلك أن الشعوب لم تعد تستسيغ فكرة الانقلاب.
والذهنية العربية ليست مصابة بالانفصام وحسب، بل وتعاني من قِصَر في الذاكرة؛ حيث قارن البعض بسخرية بين أداء الشعبين المصري والتركي في حماية أنظمتهما من الانقلابات، متناسين الثورات الشعبية العظيمة التي قام بها الشعب المصري مؤخرا.