زيارة شكري لإسرائيل في ميزان الاستراتيجية المصرية

thumbgen (21)
حجم الخط
 

يصعب التعامل مع الزيارة الرسمية التي قام بها وزير خارجية مصر سامح شكري إلى إسرائيل أخيراً وكأنها زيارة روتينية أو تقليدية، لأنها ليست كذلك بالفعل، خصوصاً أنها أثارت ردود أفعال لا تزال أصداؤها تتردد حتى الآن، سواء على مستوى رجل الشارع أو لدى قطاعات واسعة من النخب السياسية في مصر والعالم العربي، وذلك للأسباب الآتية:

1- أنها أول زيارة رسمية تتم على هذا المستوى بعد فترة برود دامت ما يقرب من عقد كامل من الزمان، إذ يعود تاريخ آخر زيارة من هذا النوع إلى بداية عام 2007. ولأن السياسات والمواقف الإسرائيلية التي تسبَّبت في برود العلاقة بين مصر وإسرائيل لا تزال كما هي، بل تزداد تطرفاً وتعنتاً بمرور الوقت، فقد بدا إقدام مصر على تلك الخطوة وكأنه لا مبرر له، وهدية لا تستحقها إسرائيل، خصوصاً أن الحجج التي ساقتها مصر لتبرير هذه الزيارة أو لتوضيح المزايا المرجوة من ورائها، مصرياً أو عربياً أو فلسطينياً، لم تكن مقنعة.

2- هي زيارة تمت الى مدينة القدس التي تحتل إسرائيل شطرها الشرقي وتتمسك بها «عاصمة أبدية موحدة للدولة اليهودية»، وإثر تعديل وزاري أسفر عن تعيين أفيغدور ليبرمان، الذي طالب يوماً ما بضرب السد العالي، وزيراً للدفاع في إسرائيل. ولأن منظمة الأمم المتحدة، وكذلك أغلب دول العالم، لا تعترف بالوضع الحالي غير القانوني لمدينة القدس، يُخشى أن يُساء استغلال هذه الزيارة، وأن يجري تسويقها كدليل على اعتراف مصر بالأمر الواقع، وأن تُتخذ ذريعة لتبرير إقدام دول أخرى على زيارات مماثلة.

3- أحيطت الزيارة بأجواء أُريد لها أن تبدو «حميمية» على نحو مبالغ فيه. فلم يكتف المتحدث الرسمي باسم الحكومة الإسرائيلية بإصدار تصريح يشير فيه إلى أن نتانياهو «استضاف وزير خارجية مصر في منزله في القدس، وتناول العشاء معه هناك ثم شاهدا معاً مباراة نهائي أمم أوروبا»، لكنه حرص في الوقت ذاته على تدعيم ما جاء في تصريحه بصور نشرها عبر الإنترنت.

تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الزيارة، والتي ذكر بيان صدر عن وزارة الخارجية المصرية أنها استهدفت «توجيه دفعة لعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية»، جرت بعد أقل من شهرين من إطلاق الرئيس عبد الفتاح السيسي «مبادرة» وصفت بأنها «تستهدف تحويل السلام البارد بين مصر وإسرائيل إلى سلام دافئ»، وبعد أسابيع قليلة من لقاء للغرض نفسه تمَّ في رام الله مع رئيس السلطة الفلسطينية، وبعد أيام قليلة من عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي من جولة أفريقية في دول حوض نهر النيل. لذا يعتقد على نطاق واسع أنها زيارة تدشن لمرحلة مختلفة نوعياً في علاقة مصر بإسرائيل، وربما تعكس بداية تحول في التفكير الاستراتيجي المصري حول ما ينبغي أن يكون عليه شكل هذه العلاقة في المستقبل المنظور، ساعدت عليه عوامل وتفاعلات إقليمية ودولية أهمها:

أولاً: انهيار النظام الإقليمي العربي بعد فترة طويلة وجد فيها نفسه محشوراً بين مطرقة النظم الحاكمة، وسندان القوى السياسية والاجتماعية المتطرفة التي قررت حمل السلاح لإسقاطها، وتطلع قوى إقليمية في الوقت ذاته، وبخاصة تركيا وإيران وإسرائيل، إلى وراثة هذا النظام العربي واقتسام تركته.

ثانياً: تخبط وانقسام العالم الإسلامي على نفسه وتشرذم قواه، تحت وقع الضربات المتبادلة بين تيارين متصارعين يدَّعي كل منهما أنه يمثل الأمة الإسلامية ويتحدث باسمها ويعمل على توحيد صفوفها، تارة في مواجهة «قوى الاستكبار العالمي» تحت شعار «ولاية الفقيه»، وتارة أخرى في مواجهة «تحالف الصليبيين واليهود» تحت شعار «الخلافة الإسلامية»!

ثالثاً: عودة روسيا الاتحادية كلاعب مؤثر في مجمل التفاعلات الشرق- أوسطية، مستغلة فراغ القوة الناجم عن عزوف إدارة أوباما عن القيام بدور «شرطي المنطقة» من ناحية، وانشغال الولايات المتحدة الأميركية بالانتخابات الرئاسية من ناحية أخرى.

رابعاً: انشغال دول الاتحاد الأوروبي، ربما لفترة طويلة قادمة، بترميم التصدع الذي بدأ يصيب بنيان الاتحاد عقب زلزال الاستفتاء الذي تقرر بموجبه انسحاب المملكة المتحدة منه.

خامساً: تغيرات حادة طرأت أخيراً على سياسة تركيا الخارجية، عقب إقدام أردوغان على تطبيع العلاقة مع كل من روسيا الاتحادية وإسرائيل، وخاصة بعد تأكده من قدرة نظام بشار الأسد على الصمود، وهي تغييرات قد يطرأ المزيد منها في المستقبل القريب، خصوصاً عقب الانقلاب العسكري الفاشل الذي كاد يطيح النظام السياسي التركي برمته.

يبدو أن بعض التحليلات حول التأثيرات المحتملة لمجمل هذه العوامل والتفاعلات على مستقبل وموازين القوى في المنطقة، قد توصلت إلى استنتاجات مفادها أن المنطقة مقبلة على انهيارات جديدة، وأن إسرائيل أصبحت طوق النجاة الوحيد المتاح أمام بعض النخب الحاكمة، وبالتالي لم يعد أمامها سبيل لإنقاذ مصالحها سوى بإعادة النظر في نمط العلاقة القائم حالياً بين الدول العربية وإسرائيل، والعمل على نقل هذا النمط تدريجياً من الطابع الصراعي أو الحيادي الذي يتسم به حالياً إلى طابع التعاون المنشود، مع احتمال الوصول به إلى نوع من التحالف النشط في مواجهة ما تمثله إيران والجماعات الإرهابية من تهديدات مشتركة. وبصرف النظر عن مدى ما تتسم به مثل هذه التحليلات من دقة أو صحة ما توصلت إليه من استنتاجات، إلا أنها تحليلات تعكس نهجاً في التفكير الاستراتيجي ليس من المستبعد أن تكون زيارة وزير الخارجية المصري أخيراً إلى إسرائيل أحد مخرجاته. غير أنني لا أتفق مطلقاً مع هذا النهج، الذي يذكرني بالنهج الذي سار عليه الرئيس الراحل أنور السادات في مرحلة ما بعد حرب أكتوبر 1973. فكما بنى السادات حساباته في تلك المرحلة على فرضية امتلاك الولايات المتحدة 99 في المئة من أوراق حل الصراع العربي الإسرائيلي، يبدو أن بعض صناع القرار في العالم العربي يبنون حساباتهم الحالية على فرضية امتلاك إسرائيل، التي تحتل مرتبة القوة الإقليمية الأولى في المنطقة من وجهة نظرهم، 99 في المئة من أوراق حل مشكلات العالم العربي! لكن من الواضح أن العالم العربي لم يتعلم بعد من دروس التاريخ!

لا يوجد حل أميركي أو إسرائيلي للأزمات العربية، ولن يكون هناك حل لأي من هذه الأزمات إلا إذا جاء عربياً خالصاً، فالأزمات التي يواجهها العالم العربي حالياً، على كثرتها وتشعبها، لها جذران لا ثالث لهما: جذر يتعلق بفلسطين وآخر يتعلق بالدين، ولا حل لأي من هذه الأزمات إلا بالوصول إلى الجذور والأمراض وعدم الاكتفاء بالفروع والأعراض. فحل القضية الفلسطينية لا يكون بترك أمرها رهناً بإرادة إسرائيل، أو أي من الدول المتنافسة على قيادة الإقليم، وإنما يكون بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل وتأسيس حركة وطنية فلسطينية موحدة وجديدة، مدعومة عربياً، وقادرة على التفاعل النشط مع مؤسسات المجتمع المدني العالمي. أما حل المسألة الدينية، فلا يكون بترك كل من هبَّ ودبَّ يفتي في شؤون الإسلام، وإنما يكون بتشكيل هيئة مرجعية تتحدث باسمه. ولأن الإسلام دين واحد، وإن تعددت مدارسه الفقهية، يتعين تأسيس هيئة مرجعية واحدة تُشكَّل من علماء يمثلون كل المدارس الفقهية، وهو أمر يستحيل الشروع في تنفيذه عملياً من دون حوار مسبق وجاد بين الشيعة والسنّة، وبالتالي بين إيران والعالم العربي. ومن دون تهيئة الأوضاع لظهور حركة وطنية فلسطينية جديدة مدعومة عربياً، وحوار عربي إيراني مدعوم إسلامياً، لا أمل في استقرار المنطقة على المدى المنظور.

عن  الحياة اللندنية