شفيق التلولي " للياسمين عودة "

8147f07f9b6960504efb95a950ef7591
حجم الخط

تأخرت "وفاء" قليلا وهي تنتظر الابنة "أمل" بعدما غاصت في نوم عميق إثر ليلة صاخبة بذكريات استحضرتها وهي تتذكر الطريق التي تسلكها اليوم يوم أن توسدت فيها كتف أبيها ذات سفر، قلبت كل الحكايات في هذه الليلة، حكاية الضبع الذي رواها لها وكيف خرج عليه في تلك الطريق؟ وحكاية حضورها اجتماعه الرفيع المستوى، وكيف آثر إلا أن تشاركه إياه على الرغم من أنه لم يتجاوز عمرها العشرة سنوات؟! وما أن انتهت من ترتيب أشيائها حتى انطلقت بهم السيارة مسرعة إلى حاجز قلنديا، عاتبتها أمها على هذا التأخير؛ حيث كانت ترغب الانطلاق في سفرهما قبيل شروق الشمس؛ خشية من أن يكون الحاجز مكتظا بالمارة إلى القدس، وخاصة بأن اليوم الجمعة والمصلين يتقاطرون منذ الصباح الباكر في تسابق وتدافع إلى "الحلابات" بوابات الدخول الدوارة، ولما وصل دورهما قدمت الأم"هويتها" البطاقة الشخصية وتصريحها إلى المجندة الإسرائيلية التي يفصلها عنها حاجز زجاجي نظرت المجندة إلى أوراقها وإلى شاشة "الكمبيوتر"، وسريعا رفعت عينيها إليها لتتأكد من ملامحها وتطابقها مع ملفها المعروض أمامها على الحاسوب، وصلاحية تصريحها من أجل إتمام إجراءات خروجها عبر هذا الحاجز، ثم سألتها ساخرة:

 

 

- إنت رايخة "عزة" جيفيرت"وفاء"؟!

 

- وما الغريب في ذلك؟

 

- لا ست "وفاء" ما غريب إلا الشيطان، بس فكرت إنك رايخة أور شليم القدس.

 

- لا أنا متوجهة إلى المدينة التي لا تنام المدينة التي ما زالت تقاوم الظلام، مدينة الخيول التي تنام وهي واقفة.

 

- أنا بعرف أنها "عزة" مش بعرف فيها خيول فيها وخوش.

 

- لأنك لم تقرأي رواية "زمن الخيول البيضاء" لو كنت قرأتها لأخبرك كاتبها إبراهيم نصر الله كيف أن "الهادية" لا تنام على ضيمها ولا تنام خيولها إلا وقوفا؟!

 

- هاها هاها ديري بالك على خيول "عزة"، فاكاشا تفضلي جيفيرت، ليتراؤوت بالسلامة خبيبتي.

 

 

على عجل أخذت الأوراق وحاجياتها، ومضت في طريقها إلى غزة تنظر يمينا ويسارا تتأمل الحقول الخضراء المترامية على جانبي الطريق، تتأملها وتتذكر زوجها الذي كم أحب هذه الطريق التي شقت بلاده بعد أن دمرت قراها ومدنها وأقيم على انقاضها المزارع والكيبوتسات والمستوطنات! قاطعت "أمل" أمها وهي مسترسلة تأسرها اللحظة حينما أشارت لها إلى مكان حادثة الضبع، كانت تذكر المكان جيدا؛ إذ يقع قرب قرية "المسمية" حيث تتصدر لافتتها إحدى المنعطفات التي تطل عليها هذه البلدة، لم يمنعها دبيب عجلات السيارة من الاستماع إلى تفاصيل حكايتها عن هذه الرحلة الجميلة حينما رافقتها والدها، بل وتجيبها عن تساؤلاتها حول المدن التي تمر عنها من اللد والرملة والفالوجا والقسطينة واسدود مرورا بالمجدل التي تقترب من غزة، وما هي إلا دقائق لا تتعدى الربع ساعة بعد أن اجتازتا المجدل؛ وصلت بهما السيارة وحطت بهما في معبر "إيرز" المقام على أنقاض قرية "دمرة" والمسمى فلسطينيا بمعبر بيت حانون، وبينما ترجلتا من السيارة باتجاه معبر "إيرز" لفت انتباه "أمل" لافتة كتب عليها "إنتبه أنت تدخل إلى أخطر منطقة" في إشارة إلى غزة، سألت "أمل" أمها وهي تشير بسبابتها إلى تلك اللافتة:

 

 

- هل أصبحت غزة أخطر منطقة يا أمي؟

 

- لا يا ابنتي، هي مدينة الياسمين التي كم أحببناها، ألا تذكرين بحرها الساحر وشاطئها الجميل، وبيارات البرتقال، وأشجار البنسيان التي تملأ جنبات شوارعها، وأشجار الكينياء الضخمة، وعرائش الياسمين التي تتدلى على أبواب بيوتها؟

 

- بلا أتذكر يا أماه، بل وأذكر شقتنا التي استأجرها أبي في أحد أبراجها السكنية وشرفته الشمالية المطلة على الجامعة وأشجار الكينياء التي تفصلنا عنها، أما الشرفة الغربية فكنا وأبي نسافر مع الشمس كل غروب وأظن بأن الطائرات الإسرائيلية قامت بقصفه في الحرب الأخيرة، ولا أنسى عرائش الياسمين التي تزين أبواب بيوت ذلك الحي الذي زرع أبي فيه أرضا لا أذكر اسم هذا الحي بالضبط، تذكرت إسم الحي "الزهراء".

 

- أممممم أراك تذكرين كل شيء يا ابنة أبيك، لكن البرج السكني الذي تم قصفه هو برج الظافر 4 ونحن كنا نسكن برج الظافر 1.

 

- وكيف أنسى المدينة التي أحبها أبي وجعلنا نحبها؟! ولكن لماذا كتبوا هذه اللافتة عن مدينة البحر الجميلة؟

 

- سأجيبك لاحقا يا نور عيني، الآن علينا إتمام إجراءات اجتياز المعبر، هيا بنا يا ابنتي.

 

مرة أخرى تبدأ رحلة "الحلابات" حتى وصلتا إلى مجندة إسرائيلية أخرى تجلس خلف حاجز زجاجي وأمامها أيضا شاشة كمبيوتر، هذه المرة لم تسألهما المجندة عن وجهتهما؛ إذ لا وجهة هنا غير غزة بخلاف وجهات الطرق المتفرعة من بعد حاجز قلنديا، لكن الابنة داهمتها بالسؤال:

 

- لماذا تعلقون هذه اللافتة؟ أهكذا غزة من وجهة نظركم؟ وكيف تحذروننا من دخول مدينتنا؟!

 

نظرت المجندة في بياناتها لتلتقط اسمها وتخاطبها به.

 

- هدا التخذير مش للعرب هدا لليهود والأجانب يا "أمل"

 

- أها أراك حفظت اسمي بسرعة! وهل يأتي اليهود إلى غزة؟ ألم تنسحبوا منها؟

 

- مظبوط لكن وقت الخرب بيجي جيش الدفاع لعزة.

 

- لماذا يأتي إلى غزة؟

 

- ليخارب الإرهابيين المخربين وعزة إرهاب كتير، وأنا مش بعرف كيف رايخين عليها وكلها إرهاب، إنتو مش بتخافوا من عزة.

 

- لو قرأت مجموعة "عودة الياسمين إلى أهله سالما" الشعرية "للكاتب إبراهيم نصر الله" أو رواية "عودة منصور اللدواي" للكاتب غريب عسقلاني، لعرفت لماذا نمضي إلى غزة، غزة ليست إرهابية، غزة تحب الحياة ونحن نحب غزة لأنها الحياة، ثم كيف نخاف من مدينتنا التي احتضنتنا يوما ما؟! لكن كل ما يحزننا اليوم هو عودتنا لوحدنا بدون أبي الذي رحل، كنا نأمل أن يكون معنا في رحلتنا.

 

- يلا يلا روخو عزة "ليخو لعززيل"

 

لم تفهم "أمل" ما تعنيه "ليخو لعززيل" إلا بعدما تمتمت لها والدتها:

 

-اختصري يا ابنتي ودعينا نمر بسلام من هنا؛ فهي تقصد اذهبوا إلى الجحيم في إشارة بذلك إلى غزة؛ فقد عرفت معناها ذات مرة يوم أن ترجمها لي أحد الأصدقاء.

 

- حسنا يا أماه هيا بنا؛ فلا داعي أن يحول هذا السجال بيننا وبين ذكرياتنا التي انتظرنا هناك وبين مرثيتك لأبي التي ينتظرها محبيه في هذه المدينة.

 

 

أخذتا طريقمها إلى غزة، طلبت "وفا" من السيارة التي تقلهما أن يأخذهما إلى فندق المتحف ذات الفندق الذي كان يحب زوجها أن ينزل فيه، وما أن وصلتا ذلك الفندق المبني على شكل متحف من المتاحف التونسية، والذي يطل على شاطئ البحر ليذكرها بهم حيث موطنها الأول؛ حتى راحت "أمل" تتأمل زرقة الماء، وتكتب على صفحتها الشخصية في موقع التواصل الإجتماعي "فيس بوك" عن مذكرات رحلتها مع أبيها إلى غزة قبل عشرة سنين، أما "وفاء" فأخذت تكتب بالدموع مرثيتها عن عودة الياسمين إلى أهله، هذا الياسمين الذي عاد وحيدا دون شاعره الذي كم كتب عن شذاه الفواح!

 

 

قرأت على الحاضرين مرثيتها مرثية الياسمين، وعادت تحمل دموعهم إلى ثراه حيث يرقد رفيق البحر والياسمين.