الانقسام كتعبير عن غياب الديمقراطية..!

أكرم عطا الله
حجم الخط

لماذا انقسمنا؟ ولماذا استمر الانقسام كل هذا الوقت الطويل؟ ولماذا لم يلتئم حتى الآن؟ ولماذا عجزت الأطراف عن التفاهم قبل وبعد ما حدث؟ أسئلة كثيرة يمكن أن تستنسخ عشرات مثلها والتي تحاول الإجابة عن واقع الاستعصاء القائم في النظام السياسي وما أنتجه من أزمات وجدت تعبيراتها في الكثير من التفاصيل .. فشل القدرة على التفاهم ....أزمة الشراكة... التحاور بالأسلحة ...الإقصاء .. فشل حوارات المصالحة وعدم إجراء الانتخابات .. شلل في النظام السياسي.
يجدر القول إن أي نظام سياسي هو انعكاس حقيقي لمجتمعه وإن ثقافة النظام السياسي هي خلاصة طبيعية لثقافة مجتمعها لذا فإن النظام السياسي الديمقراطي هو تمثيل حقيقي لثقافة ديمقراطية سائدة، ومن الطبيعي أن تكون تلك الثقافة قد تراكمت عبر عشرات بل مئات السنين وهنا يجب النظر لأوروبا باعتبارها منتجة هذه الثقافة وأفضل تجسيد لها ويجب قراءة السياق التاريخي لتلك المنطقة والعوامل التي أثرت بها من ثورات وحروب وصولا إلى ما وصلت إليه .. هي تعبير عن سياق كان يرسخ مفاهيمه وكل مرحلة تسلم للأخرى وصولا إلى ما نراه من تجسيد يعبر عن الديمقراطية.
بينما أن ثقافة غياب الديمقراطية هي تعبير طبيعي عن مجتمعات تقف عند ثقافة الاستبداد، وهنا ربما يتميز الشرق والعالم العربي بشكل خاص بتلك الثقافة ويمكن فهمها أيضا في سياق تاريخي مختلف كان مفعما بالحروب والدم، فلم تتوقف معارك الإقصاء والصراع على السلطة دون إجراء محاولات جدية لفض الاشتباك، لم يتوقف هذا الصراع منذ مئات السنين أي منذ حروب القبائل.
وفيما شهدت أوروبا منتجة الديمقراطية هذا القدر من التحولات والأحداث المليئة بالحركة والانتقال وفق مراحل التطور الاجتماعي كانت المنطقة العربية تعيش حالة من الجمود الذي يعاد توريثه دون إحداث أي نوع من أنواع التفكير العقلاني .. هذا إذا استثنينا الصراع الدائم في هذه المنطقة مع العقل والتي مني فيها هذا العقل بجملة من الهزائم وما زال.
اكتملت الصورة مع اهتزاز الإقليم فيما عرف بالربيع العربي واتضح أن ثقافة الانقسام واحدة تتغير في الشكل لكن المضمون واحد بالرغم من كثير من التشابهات في المحيط العربي .. ثقافة العداء، الوصول للسلطة، التنكيل بالخصوم بالقتل والسجن والتشهير والتشويه إن تعذر الإمساك بالخصوم لنكتشف أن الفلسطينيين كان لهم سبق التعبير عن تلك الثقافة الموروثة وغير القادرة على فهم آليات العمل السياسي.
الحقيقة أن المنطقة العربية في تفاصيل ثقافتها السياسية تبدو أشبه بممارسات القبيلة وكأنها توقفت عند تلك اللحظة من الزمن، بنية الدولة وعلاقاتها البينية تشبه تماما طبيعة علاقات القبيلة وبالتالي فإن حروب القبائل هي التعبير الواضح عما يدور في المنطقة ونحن لم نكن استثناء باعتبارنا ورثة أو امتدادا لتلك الثقافة.
وما بين الديمقراطية والقبيلة زمن هائل ممتد على مساحة ثقافتين متضادتين متعارضتين بل لا يمكن تصور أنهما قد تلتقيان في لحظة ما، فالديمقراطية في بلدانها لم تقم إلا على فكفكة مجمل المفاهيم القبلية والقبائل التي حكمت أوروبا ثم الأسر ثم حكم الشعب وهذه كما سبق لعبت التطورات دورا مهما في انتقالها من مرحلة لأخرى.
ما زاد الأزمة لدى الفلسطينيين بالإضافة لغياب ثقافة الديمقراطية وطبيعة بنية الأحزاب والقوى الفلسطينية الأقرب للحالة القبلية، هو حداثة التجربة وغياب التراكم التاريخي للنظام السياسي الناشئ حديثا وهذا هو الأخطر والذي استدعى فتح معركة السلطة حتى في ظل الاحتلال الذي يعتبر سببا كافيا لتأجيلها.. ففي ظل ثقافة الاستبداد التي تعششت في المنطقة العربية كانت معركة السلطة هي نتيجة حتمية لكن لا أحد تصور استدعاءها بهذا الشكل المبكر قبل زوال الاحتلال وذلك لأن الفلسطينيين مستجدون على العمل السياسي.
فقد تأسست منظمة التحرير قبل خمسة عقود .. حكمت الفلسطينيين فترة طويلة .. كانت تعبيرا عن النظام السياسي الموحد ولكن في حقيقة الأمر كانت حركة فتح هي الحاكم الأبرز وشبه الوحيد في المنظمة. وبعد تأسيس السلطة استمرت سيطرة حركة فتح على القرار وعلى المؤسسات ونظام الحكم بكل تفاصيله وبغياب الآخر وغياب التوازن داخل أطر ومؤسسات المنظمة بما تشبه بنية الدول العربية ذات النظام الأوحد، ولكن مع فارق فرادة التجربة وغياب الدولة لكن المقارنة يمكن الإشارة إليها للدلالة على الإرث الموحد للمنطقة العربية.
الأزمة تبدت أكثر عندما حدثت انتخابات 2006 فأنتجت واقعا كان أكبر كثيرا من قدرة الفلسطينيين على تجاوزه .. فوز للمعارضة في ظل وجود الرئاسة صاحبة الصلاحيات .. انتهاء تفرد حركة فتح بالسلطة التنفيذية .. حكم بالشراكة في النظام السياسي دون تأهيل الأطراف لثقافة الشراكة بل بالعكس هي نتاج ثقافة التفرد والإقصاء.
ولأن الشراكة ليست قرارا بقدر ما هي نتاج إرث تاريخي وتراكم، هي وليدة مستوى معين من الثقافة الكلية التي تضم مجموعة من الجزئيات .. ثقافة الديمقراطية الكلية التي تندرج تحتها عناوين كثيرة منها القانون والانتخابات والشراكة والسياسة وتداول السلطة وحق المعارضة وحرية الإعلام وفوق كل ذلك احترام النتائج واحترام الآخر واحترام الحريات وسمو قيم الحرية والعدالة.
الذي حدث في فلسطين هو أيضا مستوى معين من الوعي الذي لم ينضج حد إنتاج ممارسات ديمقراطية، ليس فقط بفعل تأثير المكان الصحراوي الذي تكثفت فيه التجربة العربية واستمدت هويتها، بل لأن الظروف التاريخية توقفت عند تلك اللحظة القديمة فتم بناء النظام السياسي بما يشبه القيم القديمة .. السيطرة .. التفرد.. مستوى الحريات والتعامل مع الآخر، بتعبير أو بآخر فإن الانقسام هو نتاج طبيعي للبيئة السياسية بكل مكوناتها الموروثة والحديثة وانعدام الخبرة .. بالإضافة للعامل الإسرائيلي الذي يلعب الدور الأبرز في صراع البرنامج الذي ظل السبب الأبرز حتى اللحظة لغياب التفاهم السياسي والاتفاق البرنامجي، وهنا سؤال الضرورة الذي بات لا يبحث عن إجابة مترفة بل إجابة تشكل المنقذ الوحيد لحالة آخذة بالغرق.
ما العمل إذاً؟ هذا هو السؤال، من المفيد أن نعرف ونقف عند الأزمة، أن نرى كل مكوناتها ولكن تلك المعرفة يفترض أنها تشكل أساسا تنطلق منه إجابات الواقع وتتكئ عليه، ولأن الأزمة أكبر من قرار يمكن اتخاذه لما تتخذه من أبعاد تاريخية ثقافية نفسية لذا فإن الممكن والمطلوب هو إعادة صياغة العقد الاجتماعي بما يتناسب مع ما تتطلبه أسس العمل السياسي فالعمل السياسي بمفاهيمه الحديثة نشأ مع الدولة الحديثة وفي حالة قطع مع المفاهيم القديمة .. وبالتالي إعادة صياغة العقد وفقا للمفاهيم الحديثة، الانتخابات والنتائج والشراكة واحترام الآخر.
إعادة صياغة العقد الاجتماعي كمحاولة أولية لإعادة صياغة العقل الجمعي بما يضمن عملية القطع مع كل المفاهيم القديمة للذهاب نحو إعادة بناء النظام السياسي بما يتطلبه من مفاهيم تنسجم مع ماهية العمل السياسي وبنية الدولة الحديثة لأن الأزمة يمكن اختصارها بالقول أنها نتجت عن الهوة الكبيرة بين بنية المؤسسة وعقل العشيرة.