حقـيـقـة «داعـش»

عبد الغني سلامة
حجم الخط

تعددت الآراء على نحو مربك بشأن حقيقة «داعش»، والجهة التي صنعتها، ودعمتها بالمال والسلاح؛ فريقٌ يقول إن أميركا هي التي أوجدتها، لحاجتها إلى «فزاعة» تخيف بها دول المنطقة وتبتزها بها، وتستخدمها ذريعة لاستمرار ما تسميه «مكافحة الإرهاب»، والتي هي في حقيقتها طريقة لحلبِ موارد المنطقة ونهب أموالها.. فريق آخر يقول إن إسرائيل هي التي صنعت «داعش»، وهي التي دربت «أبو بكر البغدادي» (اليهودي المتنكر)، وغايتها في ذلك تدمير جيوش الدول العربية، واستنزاف قدراتها، وجرها إلى حرب طائفية.
فريق آخر يقول إن إيران هي التي خلقت «داعش»، لفرض هيمنتها على العراق وسورية تحت حجة الدفاع عن الشيعة، ودليلهم على ذلك أن إيران هي التي ورثت تنظيم القاعدة، واحتضنت قياداته بعد الغزو الأميركي، وأن إيران لم تشهد أية تفجيرات أو أعمال إرهابية. وفريق يقول إن تركيا هي التي أوجدت داعش، بدليل أن جميع مقاتلي التنظيم أتوا من الأراضي التركية وبتسهيلات من مخابراتها، وأنها تتبادل معها تجارة النفط، وغايتها في ذلك السيطرة على الإقليم ومنع إقامة دولة كردية.. وفريق يتهم حكومة «المالكي» بتسهيل مهمة «داعش»، وتسليمهم الموصل لتمكينهم من إقامة دولتهم، التي ستكون ذريعة لإقامة دولة شيعية في وسط وجنوب العراق.. وفريق يتهم الأكراد بالتواطؤ مع المالكي لإنجاح مشروع «داعش»، كمقدمة ضرورية لتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات.. وفريق يقول إن «داعش» تكونت من بقايا نظام «صدام حسين»، وضباط كبار من جيشه، وفلول انشقت عن تنظيم القاعدة وجبهة النصرة أتوا لتخليص الموصل من فساد حكومة المالكي، ولنصرة إخوتهم «السنّة» المهمشين والمضطهدين في الرمادي.. وفريق يتهم النظام السوري بخلق «داعش»، ويقولون إن النظام أطلق كوادرهم من السجون ودفعهم لمحاربة المعارضة، وتشويه صورة الثورة السورية، وتخويف الأقليات، وحتى يُقال إن النظام أفضل من داعش.. ودليلهم على ذلك أن النظام لم يتصادم مع «داعش»، بل إنه يتقاسم معها الأدوار، ويستعملها كتكتيكات ميدانية، كما حدث مثلا في سقوط وتحرير تدمر، والتي اعتبروها مسرحية.. فريق يقول إن قطر لها يد في إطلاق «داعش»، ظنّاً منها أن خطرا كهذا ربما يشجع أميركا على التدخل.. فريق يقول إن السعودية هي التي أوجدتها، بدعوى أن «داعش» تتبع المذهب الوهابي، وأن عددا كبيرا من مقاتليها سعوديون.
ولكن، ألا يمكن أن تكون «داعش» قد تكونت بفعل محلي محض؟ كوليد لنظم الاستبداد، ونتيجة تلاقح جملة من الظروف الذاتية والموضوعية! بمعنى أنهم مجموعة من الناس لديهم فهمهم المتزمت للدين، وأسلوبهم المتشدد والعنيف في تطبيقه، وكل ما في الأمر أنهم اشتغلوا بذكاء، واستفادوا من كل التناقضات الموجودة في المنطقة، وبنوا تحالفات تكتيكية خدمتهم بطريقة ما!
ولكن كيف أمكن لهذا التنظيم أن يصبح فجأة قوة عظمى، لديها القدرة على مجابهة كل جيوش المنطقة؟! والسؤال المتكرر: كيف يستطيع التنظيم التنقل بقطاعاته وآلياته في صحراء مكشوفة ولا يتعرض لأي قصف (حتى من الروس)؟
من المؤكد أن داعش تلقت دعما مباشرا من جهة ما (أو أكثر من جهة)، ثم تركت لتوليد دينامياتها الخاصة بها بما يخدم الجهات التي أسستها، دون أن يعني ذلك أنها ستظل تابعة لها، فقد تنقلب على مؤسسيها.. ومن المؤكد أيضا أن الدول الفاعلة والمتصارعة خلقت مناخا من الفوضى، ووظفت نتائجه لمصلحتها، وفي خضم هذه الفوضى خُلقت «داعش»، واشتغلت كل الدول على توظيفها، كل لصالح سياساته وحسب أولوياته. ولكن، كيف أمكن أن تتلاقى هذه الدول المتصارعة والمتنافسة عند نقطة واحدة (أي تشكيل تنظيم داعش) ثم تتظاهر جميعها بأنها تحاربه، حربا لا هوادة فيها!
للوصول إلى الحقيقة نحتاج جهداً استقصائياً كبيراً، ومعلومات استخباراتية من مصادر موثوقة، وأغلب الذين تحدثوا عن «داعش»، استندوا إلى توقعات وتكهنات وتحليل لمجريات الأحداث، لذلك جميع وجهات النظر السابقة تحمل قدراً من الصواب.. صحيح أن معرفة حقيقة التنظيم مسألة مهمة، أي معرفة أصوله واتصالاته وهيكله التنظيمي ومصادر تمويله وأسلحته.. لكن هذه تبقى تفاصيل مقابل الجزء الأهم من الحقيقة، وهو مصادر فكرهم المتزمت وأصول أيديولوجيتهم المتشددة، لأن ذلك هو المفتاح الصحيح لمحاربة التنظيم، والقضاء على هذه الظاهرة التي أول ما أضرت، أضرت بالإسلام ذاته.
توضيحا لهذه النقطة، كتب د. «محمد أبو رمان» في مقالته في» الغد» الأردنية: «لم يأتِ تنظيم «داعش» في الفتاوى والأحكام الفقهية التي يتبناها بجديد خارج المدونة الفقهية الإسلامية. ولو عدنا إلى كتاب العمدة المعتمد لدى التنظيم، لمؤلفه أبي عبدالله المهاجر، شيخ أبي مصعب الزرقاوي، كتاب «من فقه الجهاد» (أو «فقه الدماء» كما يطلق عليه)، سنجد أنه من الغلاف إلى الغلاف لا يخرج عن كلام أئمة المذاهب الفقهية والعلماء الكبار في التاريخ الإسلامي، بالرغم من أن الكتاب يطفح بالدم والتكفير واستباحة المدنيين والأبرياء، والتوسع في فتاوى القتل والذبح».
وبنظرة على بعض المناهج الدراسية لدى كثير من الدول العربية، بما فيها التي تدرس في الأزهر، وبتمحيص في المدونات الفقهية القديمة، سنجد الفكر الوهابي المتزمت حاضرا بكل قوة، وهو الفكر الذي تنهل منه داعش، وتستند إليه في تبرير جرائمها، والتي نجد شبيها لها في التراث الإسلامي نفسه.
لذلك، فإن التركيز على قضية «داعش» من الناحية الأمنية، والاجتهاد في تحديد علاقاتها مع أجهزة المخابرات الغربية، والحديث عن مؤامرات، وتكرار مقولة أن داعش لا تمثل الإسلام.. إنما هو التفاف على جوهر الموضوع، وتمويه على الجزء الأخطر منه. خاصة وأن بعض المفاهيم الدينية، والفتاوى والأحكام الفقهية لدى أوساط عريضة من مجتمعاتنا، أصبحت تميل إلى الجانب المتشدد أكثر فأكثر خلال العقود الأخيرة، والفكر الديني/السياسي لدى كثير من جماعات الإسلام السياسي لا يتعارض مع الفكر الداعشي، إلا في درجة التشدد والتوقيت والإمكانيات.
قد تنجح الضربات الأمنية بإلحاق أضرار فادحة في صفوف داعش، وقد تؤدي إلى هزيمتها عسكريا وتصفيتها تنظيميا كما حدث تقريبا مع تنظيم القاعدة، ولكن أفكار داعش ونهجها سيظل قائما، وستظل المنطقة تفرّخ الإرهابيين، وتنتج المزيد من الأحزمة الناسفة والمفخخات.. ولا سبيل للقضاء على الفكر الداعشي إلا بثورة فكرية، تجدد الخطاب الديني، وتنقيه من كل الشوائب التي علقت به في عصور الانحطاط.