كيف ينجح الرئيس التركي أردوغان في السيطرة الآن بلا صعوبة ولا معارضة على الدولة واجراء تطهيرات بحجوم هائلة بهذا القدر؟ ثمة جواب على هذا السؤال. منذ بضع سنوات، مرحلة إثر مرحلة، هو وحكمه يصفيان مراكز القوة المعارضة المحتملة في المجتمع التركي، ولاسيما في قطاعات التجارة، الثقافة، الخدمة العامة، الاتصالات، والجيش.
عرف اردوغان ويعرف بأنه في دولة مع أسرة أعمال تجارية محطمة، موظفين خانعين، جندرمة ثقافية تحقن بالافيون الجماهير والاعلام الذي يستجدي وجوده، لا أمل في اسقاطه. ولإحكام السيطرة كان ينقصه فقط حدث دراماتيكي تأسيسي، ذريعة لعمل استعراضي كبير. وقد حصل هذا في ليل الانقلاب الذي كان أو لم يكن.
هاكم تذكيرا من الماضي السحيق. في شباط 1933 أحرق في برلين مبنى البرلمان، الرايخستاغ. وقد عرض الاحراق على الفور كمحاولة انقلاب من تنظيم سري شيوعي. وفي اعقاب الاحراق تلقى المستشار حديث العهد، أدولف هتلر، صلاحيات طوارئ بعيدة المدى. وزج بعشرات الآلاف في السجون، واستكمل النازيون سيطرتهم الكاملة على ألمانيا بمباركة دوائر واسعة في الشعب وفي المجتمع. في الانتخابات في اذار 1933 نال حزبهم 44 في المئة من الاصوات.
ومع ان لغز احراق الرايخستاغ لم يحل، لا شك لدى المؤرخين بانه لم يعمل أي تنظيم سري شيوعي هناك، وان الاحراق استخدمه النازيون كذريعة لتصفية ما تبقى من النظام الليبرالي. فقد خدم بنجاعة كبيرة احتياجاتهم، ويحتمل أن يكونوا وقفوا خلفه. اردوغان، بالطبع، ليس هتلر، وحزبه ليس نازيا. الفوارق عميقة. ولكن اردوغان وحركته ايضا يعرفان كيف يستغلان الانقلاب العسكري الفاشل من أجل مصالحهم السياسية – وما كانوا لينجحوا بذلك لو لم تعد الارضية مسبقا، بتعاون نشط ومعقول من جهات عديدة زاغت ابصارهم عن رؤية الواقع السياسي المتشكل في بلادهم.
هكذا، مثلا، عندما بدأ حكم اردوغان ينكل بالشركات الاقتصادية الخاصة الكبرى، هتف اليسار التركي له. هو يفعل الامر الصحيح، فرح السياسيون والمحللون ممن يعتبرون «رأس المال المركز» العدو الاساس للدولة التركية. وبالفعل فقد سد الطريق في وجه نمو الشركات الكبرى، وطهرت مجالسها الادارية من الاشخاص الذين لم يعجبوا الحكم الذي احتل المواقع الاساسية في الاقتصاد تحت غطاء الانظمة الادارية لصالح المستهلك. اما مسؤولو اسرة الاعمال التجارية التركية فهم اليوم ظل باهت لانفسهم، ضعفاء، خائفون ومبتعدون عن السياسة.
لقد أيد اليسار التركي، كما أسلفنا بحماسة، هذا المقطع من سياسة الرئيس وحكمه، في ظل التجاهل التام لنزعة القوة التي يستخدمها اردوغان والقوة الدكتاتورية التي جمعها. وأيدته دوائر ليبرالية حين بدأ يقيل موظفين تماثلوا في الماضي مع الحكم العسكري، في ظل التجاهل التام للتسييس المندفع للأجهزة العامة. كما أيد الليبراليون حملات التطهير المتكررة داخل الجيش، بما في ذلك الحبس والمحاكمات الاستعراضية، في ظل تجاهل الايديولوجيا الرسمية للضباط المخلوعين.
كان رجال الدين مع اردوغان عندما طرد من المؤسسات الثقافية التركية «العناصر غير الاخلاقية، المنحرفين والذين لا يعكسون روح الشعب». وعزز الاسلاميون المعتدلون حكمه عندما صفّى بذكاء التقاليد العلمانية. ومجده كارهو النخب حين اظهر تفضيله للثقافة الشعبية المزعومة، ولكن المجندة عمليا في خدمة الحكم. وصفق الاعداء الكثيرون للاعلام المستقل القوي له عندما عطله وكسر عموده الفقري الاقتصادي. وللزينة ولتهدئة الجمهور سمح حكم اردوغان بحرية التعبير في وسائل اعلامية هاشية وغير مؤثرة.
في كل مقطع في طريقه الى الطغيان الجديد وجد اردوغان ما يكفي من المؤيدين من خارج النواة الصلبة لحركته، كي لا يعتبر دكتاتورا منفلت العقال. بل العكس، ازدادت شعبيته. ومثل الحركات المتملقة للجمهور والقومية الاخرى، تمكن حزب العدالة والتنمية بقيادة اردوغان من تحريض قسم من الامة التركية ضد القسم الآخر، ومن خلال التحريض ثبّت حكمه. ما ينقصه لاستكمال السيطرة الكاملة على مبنى المجتمع كان فقط حدثا دراماتيكيا ما يبرر الانتقال من الدكتاتورية الخفية الى العلنية. ولحظة وقع هذا: محاولة الانقلاب العسكري، الذي هو احراق الرايخستاغ موديل 2016.