خواطر إنسانية عن تيسير قبعة

صادق الشافعي
حجم الخط

لم أكن أتصور، ولا كنت أرجو، أن يكون لقائي معه يوم الثلاثاء هو الأخير.
في ظهيرة ذلك اليوم زرته في مكتبه بالمجلس الوطني الفلسطيني، ثم اصطحبني للغداء في بيته حيث كانت زوجته الفاضلة هي ثالثتنا على ذلك الغداء.
صباح الخميس الباكر، تلقيت خبر وفاته، ونزل الخبر علي  كالصاعقة تمتزج فيها المفاجأة المزلزلة مع الفجيعة.
بشكل تلقائي وجدتني في بيته مع آخرين. وبشكل تلقائي وجدتني مع الآخرين منغمساً في كل مسار الحزن والفقد: مسار الجنازة والدفن والعزاء بكل ما يحمله من الم يفري العظام.
في الجنازة كما في أيام العزاء التقيت من بين المعزين الكثر بالعديد ممن ربطتني بهم علاقات وطيدة وصداقات في رحاب العلاقة مع تيسير، ثم باعدت بيننا ظروف الحياة او افتراق الطرق. «يا الله، كيف جمعنا تيسير في حياته، كيف يجمعنا الآن في مماته».
كثيرون كتبوا وسيكتبون عن دور تيسير النضالي الوطني في اكثر من مجال وعلى اكثر من صعيد ومستوى، ولا أظنني في هذا الصدد سأضيف الكثير.
ما يحضرني ويستحوذ على فكري ووجداني ومشاعري بحميمية شديدة الدفء هو تلك الخواطر الإنسانية، يربطها ببعضها شريط طويل من صور لعلاقة امتدت لأكثر من خمسين سنة بقليل. مع الإقرار باستحالة الفصل ما بين هذا الشريط وبين المسار النضالي لتيسير، فقد ظلا متلازمين حتى الاندماج.
كانت البداية في القاهرة، كان رئيسا للاتحاد العام لطلبة فلسطين وكنت طالبا، ثم اصبحت عضوا في الهيئة الادارية لفرع الاتحاد بالقاهرة. كان ذلك في زمن عبد الناصر. ذلك الزمن، كان يتسع لكل الاحلام الكبيرة من القومية الى الوطنية الى الوحدوية الى التحررية الاستقلالية الى التنموية الى المكانة الدولية وغيرها، وفي المركز تحرير فلسطين.
كان يدرس بالجامعات المصرية في ذلك الزمن آلاف الطلبة الفلسطينيين وآلاف من الطلبة العرب ومثلهم من الطلبة الأفارقة، برسوم دراسية شبه مجانية.
حين وقعت حرب 1967 نجح تيسير بصفته رئيسا للاتحاد بالحصول على موافقة من جهة مصرية معنية بتطويع طلبة فلسطينيين في جبهات القتال. عندما عبأنا الاستمارات التي طلبت منا، وضع جميع المتطوعين في خانة نوع التدريب الذي تلقيته «تدريب راق» مع ان كلهم تقريبا لم يتلقوا اي تدريب. كان الشوق الى المشاركة في القتال وفي تحقيق النصر، كما دفعنا الإعلام الى اليقين به، هو الطاغي والحاكم. حين أخبرت تيسير أنني لم ار بندقية في حياتي الا في الأفلام، أجابني أن الأمر سهل وسيعلمني عليها في الباص الذي سينقلنا الى الجبهة.
لثلاثة أيام بقينا نتجمع أمام مكتب منظمة التحرير من الصباح إلى المساء بانتظار الباصات التي ستنقلنا الى الجبهة، وكان عددنا يزداد كل يوم.لا الباصات وصلت ولا نحن التحقنا بالقتال، وبقية حكاية حرب 1967 معروفة.
بعد الحرب كان تيسير من أول الطلاب الفلسطينيين والعرب الذين تركوا الدراسة والتحقوا بالتنظيمات الفدائية. وكان أيضا من أول تسلل الى الأرض المحتلة للمساهمة في قيادة العمل الفدائي فيها، ومن أولهم بالاعتقال والسجن.
 تصادف خروج تيسير من اتحاد الطلاب العالمي في براتيسلافا. كان وفد اتحاد الطلاب الى ذلك المؤتمر كبيرا ونوعيا يرأسه المرحوم أمين الهندي رئيس الاتحاد في ذلك الوقت.
رحبت قيادة اتحاد الطلاب العالمي باقتراحنا توجيه دعوة خاصة لتيسير للمشاركة في المؤتمر. وشارك فعلا. المؤتمر عقد جلسة خاصة للترحيب بتيسر والإشادة بنضاله. كان ذلك الموقف من اتحاد الطلاب العالمي منسجما ومكملا لموقفه حين اعتقل تيسير، عندما اصدر ملصقا وبيانا عممه على كل الاتحادات الأعضاء فيه وقواعدها يتضامن مع تيسر ويطالب بإطلاق سراحه.
في 1973 كان عدد من كوادر حركة فتح هم من بادر واقترح على الرئيس الشهيد ياسر عرفات تسمية تيسير لرئاسة الوفد الفلسطيني الى مهرجان الشباب العالمي الثامن في برلين صيف1973، وقد فعل.
كان وفدنا كبيرا( حوالي 150 عضوا) وكان متنوعا: ان لجهة الكفاءات والمهارات وان لجهة تنوع التمثيل، وكان فاعلا ومؤثرا جدا. وزاد فعله وتأثيره حضور ابو عمار الذي قال في اكثر من مناسبة، انه في ذلك المهرجان تسلم راية حركة التحرر الوطني العالمية من فيتنام التي كانت تعيش في تلك الأيام بواكير انتصارها.
طول عقد السبعينات من القرن الماضي نجح تيسير في تشكيل وقيادة فريق عمل متنوع الكفاءات والخبرات، وعلى درجة عالية من التجانس والتكامل، ومن الفعل والإنتاج. «كانت الأمور في ذلك العقد واضحة ومباشرة. كانت الظروف صعبة والخطر محدقا، لكن الحلم كان مفتوحا، نديا وعفيا، وكانت الإرادة بمستوى الحلم وعلى قدر المسؤولية.»
في ذلك الزمن تأكدت بشكل جلي مواصفات تيسير القيادية، وأولها القدرة على المبادرة باتخاذ موقف تجاه امر مستجد وفي اتخاذ القرار وتحمل مسؤوليته وتبعاته، وفي فتح آفاق جديدة للعمل، وما القيادي اذا لم يمتلك تلك المواصفات؟
من مثل تيسير لا يموتون. هم يواصلون الحياة في كل من زرعوا فيهم بذرة النضال الوطني، وبذور القيم الانسانية العليا والنبيلة، كما يحيون في نسلهم.