«لا أعتقد بأنه يمكن فهم المرحلة التي نعيشها، بعمق، إذا لم ندرس الأمر بالمنظور التاريخي: نحفر حتى الجذر لنتعرف على مصدر الأوراق والأزهار والثمار».
تيسير العاروري
دون مقدمات؛ رحل «تيسير عاروري»،
رحل المفكِّر اليساري، والمناضل السياسي التقدمي، والأستاذ الأكاديمي، والإنسان المتواضع،
لم يحتمل قلبه كل هذا الجنون الذي يلفّ العالم، ولا آلة القتل الوحشية العمياء،
أو التعصب الديني والمذهبي والعرقي،
لم يحتمل ضياع البوصلة، وانسداد الأفق، وانعدام الديمقراطية، واتساع التشظي!
وكيف يمكن لقلبه أن يحتمل! وقد ناضل طيلة حياته من أجل حرية الوطن والإنسان، مؤمناً أن تلك القيم لن تتحقق سوى من خلال بناء مجتمع عصري علماني، خال من القهر والاستغلال، يحترم حرية الفرد وحقوق الإنسان، حيث الترابط الوثيق بين القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
*****
آمن بأهمية العلم، وقدرته على التأثير، منذ ريعان شبابه، وربط العلم المتخصص بالمعرفة الشمولية. درس الفيزياء، وحصل على درجة الماجستير فيها، من جامعة موسكو، العام 1973، وربط بين الفيزياء والسياسة، مقتنعاً بالمسؤولية السياسية للعلم، مسترشداً بالمفاهيم التي أكَّدها عالم الفيزياء الألماني: «كان فون فايتسكر»: «لا يستطيع المرء في عصرنا الحالي أن يشتغل في مجال الفيزياء، التي ينتج منها الطاقة الذرية، والقنابل النووية، ثم يقول: لا علاقة لي بذلك (أي بالسياسة)».
عمل بالعلم وبالسياسة وبالفكر، وآمن بأهمية التنظيم الجماهيري؛ فشارك في تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني (حزب الشعب حالياً)، العام 1982، في الوقت ذاته الذي مارس فيه العمل الأكاديمي، كمحاضر في جامعة بيرزيت، في دائرة الفيزياء، من سنة 1973 حتى العام 1988، ومن بداية العام 1994/1995 حتى نهاية العام 2015/2016.
*****
اعتقل «تيسير العاروري» بعد عام على التحاقه بعمله في الجامعة، مدة 45 شهراً، «وذلك ضمن حملة اعتقالات واسعة قامت بها سلطات الاحتلال ضد «الجبهة الوطنية الفلسطينية»، التي كانت قد تشكلت في صيف 1973، من بعض القوى الوطنية الرئيسة وبعض الشخصيات المستقلة.
أعلنت منظمة العفو الدولية (أمنستي) عني «سجين ضمير».
كما اتسعت حملات التضامن والاستنكار لاعتقالي محلياً ودولياً.
وتدخل العديد من كبار علماء الفيزياء والرياضيات. لم توجَّه لي رسمياً أية تهمة طيلة فترة الاعتقال الذي استند إلى ما يسمى قوانين الطوارئ والاعتقال الاحترازي». اعتقل لفترة قصيرة، العام 1982، واعتقل مرة ثالثة، إبان الانتفاضة الأولى، العام 1988، وأبعد عن الوطن بعدها بأيام، مع ستة عشر مناضلاً فلسطينياً: «بسبب دورك في التخطيط وقيادة اللجان الشعبية»، كما أبلغه قائد المنطقة الوسطى لجيش الاحتلال.
واعتماداً على القانون الفيزيائي، الذي يقضي بأن «لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه»؛ ناضل «تيسير عاروري»، مع رفاقه المبعدين، وبالتعاون مع لجنة المحامين، ضد الاحتلال، وسياسة الإبعاد بشكل خاص، مبيناً لا إنسانيتها، ولا قانونيتها. «وقد نجحنا فعلاً في وقف سياسة الإبعاد لمدة سنتين على الأقل، وقد تمكنت من العودة إلى أرض الوطن في نيسان 1994، بموجب قرار إلغاء قرارات الإبعاد بحق مبعدي الانتفاضة، وعددنا 32 مبعداً».
*****
حمل المناضل «تيسير العاروري» همّ توحيد اليسار الفلسطيني طويلاً، مؤمناً أن هذه الوحدة ضرورة، من أجل القدرة على التأثير الفكري والسياسي.
آمن بإمكانية تحقيق الهدف؛ إذا توفرت أسباب نجاحه الموضوعية والذاتية.
قدَّم دراسة نقدية متميِّزة، في مؤتمر «تجارب توحيد وتفعيل اليسار في فلسطين والعالم»، في رام الله، بتاريخ 26 حزيران 2009؛ حدَّد فيها أسباب فشل تجارب توحيد اليسار الست، ودعا إلى تجاوزها، مؤكِّداً «أن الدراسة العلمية التقييمية تتطلب دراسة كل تجربة على حدة دراسة تفصيلية، واستخلاص أهم دروسها، ثم رؤية ما هو مشترك فيما بينها، وإلى أي مدى استفادت كل تجربة مما سبقها، وهل تكرَّرت نفس الأخطاء، ولماذا؟».
قدَّم في نهاية ورقته استخلاصات، أعتقد أنها كانت وما زالت ضرورية لقضية توحيد التيار اليساري الديمقراطي الفلسطيني، أهمها: ضرورة توفر الإرادة السياسية لدى قوى اليسار، في اعتبار قضية الوحدة خياراً مباشراً وأساسياً واستراتيجياً لها، وتعبئة أطرها وعملها لترويج فكرة تجميع التيار، وبالتالي انخراط كل أطرها لإنجاح هذا المشروع الديمقراطي الكبير، وضرورة عدم الاستخفاف بأهمية مسألة توفير المستلزمات الضرورية لمأسسة العمل، والحذر من التأثير السلبي لنظام الكوتا المعمول به في م. ت. ف، على وحدة اليسار الفلسطيني، والحذر من تضخم العامل الذاتي لقيادات فصائل العمل الوطني: «فالأمناء العامون للفصائل يجب أن يكونوا أعضاء في أعلى هيئة قيادية للإطار الموحد. إن محاولة تجاوز ذلك، سواء من خلال تنظيم اجتماعات خاصة (كما في حالة تجربة التجمع الديموقراطي) لم تحلّ الإشكال. هذا العامل تكرَّر في التجارب الست، وكان أحد الأسباب الرئيسة للفشل».
*****
شغل المناضل «تيسير العاروري» مواقع مجتمعية ونقابية عديدة، اعتبرها تكليفاً لا شرفاً، ولذا حرص أن يكون وجوده فاعلاً في كل منها.
انتخب عضواً في المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني، وانتخب منسقاً عاماً للتجمع الديمقراطي الفلسطيني، وشغل موقع رئيس مجلس إدارة مركز القدس للمساعدة القانونية، ورئيس المركز الفلسطيني للسلام والديمقراطية، كما كان عضواً في المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية.
في إجابة عن سؤال: ما العمل؟ قدَّم المناضل تصوّره، كرئيس المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديمقراطية، خلال المؤتمر السنوي الثاني عشر للمركز، مسلطاً الضوء على أهمية إصلاح الجبهة الداخلية المجتمعية: الاقتصاد، والتعليم، والصحة، والأمن، والأمان، والإصلاح، ومقاومة الفساد؛ «ليس فقط ترميم جبهتنا الداخلية، وإنما كذلك من أجل تقويتها وتفعيلها وإعدادها لتحمل ظروف وتبعات صراع طويل مع الاحتلال».
*****
جمع المفكر والسياسي والمناضل التقدمي «تيسير العاروري» زبدة آرائه وتجاربه في الحياة وفي السياسة وفي العلم، في كتاب يحمل عنواناً دالاً: «الهزائم ليست قدراً».
نعم، الهزائم ليست قدراً، أيها الزميل والصديق والإنسان،
يا صاحب الضمير الحي، والرؤية الثاقبة، والعمل الدؤوب، والفكر التقدمي،
سوف تبقى حياً في ذاكرة أصدقائك وزملائك ومحبيك، وفي ذاكرة قريتك وشعبك، وأحرار العالم،
وسوف ترنّ كلماتك حتى تثقب الآذان: الهزائم ليست قدراً.
عبد الناصر في غزة .. الذاكرة والقضية
07 نوفمبر 2023