في بداية الأسبوع وضع دونالد ترامب، وليس لأول مرة، الحدود بين الهزلي والخطير، حين ادعى بانه يسمع اكثر فأكثر احاديث عن أن انتخابات الرئاسة ستُزوّر.
ادعاء خطير لأنه قد يشكل أساسا لنزع الشرعية على نتائج الانتخابات العامة؛ ومن شأنه أن يشكل ذريعة لمحاولة التشويش على ولاية الادارة الجديدة؛ ومن شأنه أن يؤدي الى الفوضى.
ليست هذه أول مرة يدعي فيها احد ما في أميركا بان نتائج الانتخابات ليست حقيقية. وان الانتخابات سرقت. هكذا حصل ايضا في جولات انتخابية سابقة، مثل تلك التي كانت قبل نحو 200 سنة في انتخابات «الصفقة القذرة»، والتي رفعت الى الحكم الرئيس جون كفنسي آدمز، على حساب من رأى نفسه المنتصر المناسب – آندرو جاكسون. بعد أربع سنوات من ذلك، محمولا على ظهر الغضب الجماهيري الذي لم ينطفئ، صعد جاكسون الى الحكم وصار أحد الرؤساء المحبوبين والثوريين في اميركا.
في عدة مواضيع كان يمكن لجاكسون ان يشكل أبا روحيا لترامب. قصير النفس مثله، يسارع الى المعركة، وهو ايضا شكل فماً للجماهير التي ملت حكم النخب. كرئيس اتخذ سياسة ذات نزعة قوة، حيث اعتمد على القوة العسكرية. عندما أراد أرضا ما احتلها. وعندما اصطدم بمعارض ما سحقه، أو على الاقل حاول أن يفعل ذلك. المصلحة الاميركية كانت في رأس اهتمامه. وكان يريد أن يقوي اميركا، ويزيح خصومها عن الطريق.
كان رئيسا انجازاته المبكرة مثيرة للانطباع أكثر من انجازات ترامب. اتخذ صورة من ضحى حقا من أجل الامة حين خرج الى المعركة كجنرال عنيد. ولكن مثله، وصل الى القمة ليس فقط بقوة شخصيته الجارفة بل وايضا بقوة ملاءمته للزمان والمكان. وبكلمات اخرى: حتى من يعتقد بان دونالد ترامب هو مهرج في افضل الاحوال وديماغوجي خطير في أفضل الاحوال، يجب أن يأخذ بالحسبان جذور قوة جذبه – حقيقة أن نحو نصف الاميركيين يفضلونه على البديل. فقد وصل ترامب الى حيث وصل، حتى بافتراض انه لن يكون في النهاية رئيس الولايات المتحدة، لانه يعرض على الاميركيين بديلا لسياسة لم يعودوا يريدونها، بديلا لسياسة داخلية ملوها، بل أكثر من هذا بديلا للسياسة الخارجية.
بين روسيا والصين
ترامب نفسه محب للسياسة، وبالتأكيد ليس «العقيدة» ولكن من يأخذون ترشيحه بجدية – كما أسلفنا، من المرغوب فيه اخذه بجدية بصفته يعبر عن روح الزمن – يتعين عليهم أن يفهموا ما الذي يعبر عنه هذا الترشيح، والمرشح لا يسهل عليهم عمل ذلك، إذ أن عقيدته يكشف عنها قطعة قطعة، هنا بامتشاقة، هناك بقذارة فم، هنا باظهار الجهل التام، وهناك بتصريحات فضائحية. ولكن «الشعب يفهمه»، مثلما قال أحد مستشاريه، عقيد سلاح الجو السابق، سام كلوبس. الشعب يفهم ما يقوله ترامب.
مثلا: هو لا يريد هجرة اسلامية الى اميركا بشكل عام، أو (حسب صيغة لاحقة) على الاطلاق تقريبا. بمعنى، انه لا يريد عولمة بمفهومها المعروف، البيل كلينتونية. وهو لا يريد ان يستورد الارهاب الى اميركا، وبالتأكيد لا يريد أيديولوجيا مثالية لاصلاح العالم. وهو ليس قلقا من الحاجة للحديث بأدب عن باقي العالم، وذلك لانه ليس لديه مصلحة خاصة في باقي العالم.
ان الميل المتعاظم نحو العزلة الاميركية هو اساس مذهب ترامب، وقصر الروح الذي يعبر عنه بالنسبة للدور – في نظره الذي ينكر الاخرون جميله، والذي تقوم به اميركا في العالم- يبدو أنه مشترك بين غير قليل من الناخبين. أميركا تعرق كي يكون العالم هادئا. وهي تستثمر المال والدم كي يتسنى للعالم أن يتفرغ لشؤون اخرى. هذا هو جوهر الادعاء، ونتائجه تصريحات متشددة من المرشح ضد حلف شمال الاطلسي الناتو، المؤسسة التي في نظر ترامب هي ديناصور أكل الدهر عليه وشرب. اذا كانت الدول الاخرى تريد الامن والحماية، فان عليها أن تستثمر في هذا. اميركا ترامب لن تحميها، وبالتأكيد لن تفعل هذا إن لم تر استعدادا من جانبها لتخاطر هي ايضا ماليا في الحروب التي تريدها.
ان الحرب التي يرغب فيها ترامب هي حرب على النمط الجكسوني: حرب قوة هدفها النصر. نيوت غينغرتش، أحد الناطقين الاكثر خبرة في خدمة ترامب، ادعى في المؤتمر الجمهوري قبل اسبوعين بانه في الوقت الذي «لا يمكن لنخب سياستنا الخارجية، التي تقودها هيلاري كلينتون، أن تتحدث باستقامة» فان ترامب يقول الحقيقة. واضاف بان اميركا توجد في حرب مع عالم اسلامي متطرف يرغب في ابادتها وفي ابادة نمط الحياة التي تتبناه. «هم أقوى مما يخيل لنا، ولا بديل عن النصر». زلماي خليلزاد، الذي كان أحد كبار مسؤولي ادارة جورج بوش، سفير في الامم المتحدة، سفير في العراق وسفير في افغانستان، يدعي بان عقيدة ترامب «ترفض فرضية انه يمكن التعايش مع التهديد»، ذاك الكامن في الارهاب الاسلامي.
أجرى خليلزاد، هذا الاسبوع، احدى التجارب الاكثر تطورا لبلورة عموم تصريحات ترامب في قول متماسك، في مقال كتبه لمجلة «ناشينال انترست». واجمل في المقال «عقيدة» المرشح الجمهوري للرئاسة في خمسة بنود: الاهداف الاسمى لاميركا، الحرب ضد الارهاب، الهجرة، علاقات القوى العظمى، وتطوير الديمقراطية. لا يعتقد خليلزاد ان ترامب انعزالي، فهو، مثل جونسون، يريد أن يزيد ميزانية الدفاع كي يتأكد بقاء اميركا القوة العظمى الرائدة في العالم، سواء عسكريا أو اقتصاديا.
وعلى حد قوله، فان هدفه الحقيقي هو الغاء السياقات النابعة من العولمة، والتي تمس برأيه بوضع اميركا، بل أكثر من ذلك بوضع الاميركيين، الذين يفقدون الوظائف والدخل لصالح دول اخرى. وعليه فهو يختار خطا حازما وكديا امام الصين، التي تحاول التعاظم الاقتصادي حتى على حساب اميركا، وبالمقابل لا يشعر بحاجة لاتخاذ خط مشابه حيال روسيا، التي لا تشغل قوتها الاقتصادية بال الاميركيين.
عقيدة الواحد في المئة
في دعوتها القتالية للقضاء على الارهاب تشبه عقيدة ترامب في شيء ما العقيدة التي خرجت من مدرسة ادارة بوش بعد عمليات 11 ايلول 2001، والتي حظيت لاحقا في الكتاب واسع الانتشار للصحافي رون سوسكند، بتعبير «عقيدة الواحد في المئة». وهي تنص على انه في عالم الارهاب عديم الكوابح، الذي يحاول الاستيلاء على اسلحة الدمار الشامل، لا يمكن بعد اليوم الانشغال بحسابات الخطر.
وكما صاغ ذلك نائب الرئيس الاسبق، ديك تشيني: «اذا كان هناك احتمال واحد في المئة فقط في أن يكون علماء باكستانيون يساعدون القاعدة على تطوير او بناء سلاح نووي، فان علينا أن نتعاطى مع ذلك كيقين في كل ما يتعلق بردنا». وبكلمات اخرى: احتمال واحد في المئة ان تتعرض أميركا لهجوم بسلاح نووي، هو واحد في المئة اكثر ما ينبغي. على أميركا أن تفعل كل ما ينبغي لها كي تنزل هذا الواحد في المئة الى صفر.
بالنسبة لهذا الواحد في المئة يوجد بالطبع سؤال: هل هذه العقيدة معقولة عند الحديث عن الاستثمار بالنسبة للمقابل، وهل يمكن على الاطلاق الوصول الى وضع من الخطر بمستوى صفر.
مهما يكن من أمر، فعند الحديث عن ترامب ثمة مؤشرات الى أنه يتبنى الادعاء الذي في اساس هذه العقيدة، وان كان في خلاف تام مع ادارة بوش، يكتفي بها ولا يرغب في أن يلصق بها ايضا العامل الايديولوجي، او ربما ينبغي أن نقول المسيحاني، الذي ميز ادارة بوش: الرغبة في نشر الديمقراطية في ارجاء العالم ولا سيما في الشرق الاوسط.
هذا الفارق هو أحد الاسباب الواضحة لعدم وقوف معظم كبار مسؤولي ادارة الرئيس بوش خلف ترشيح ترامب، بل ان غير قليل منهم وقفوا حتى في موقف كدي منه. يمكن أن نقدر أو نمقت أعمال بوش في العراق، ولكن لا يمكن أن ننفي أنه اعتزم خدمة ليس فقط أميركا بل ايضا العالم العربي والاسلامي. فقد اعتزم تحريره، تحسينه، اعطاءه فرصة للتطور. اما ترامب فهذا لا يعنيه.
هو يريد الهدوء في جبهة الارهاب، ومسألة تحقق هذا الهدوء تقلقه اقل بكثير. اذا كان يجب بالقوة فسيستخدم القوة. اذا كان يجب التعاون مع الروس فسيتعاون مع الروس. اذا كان يجب دفع ثمن جراء التعاون مع الروس – مثلما في ترك بعض الدول في شرق اوروبا لمصيرها لتعود الى مجال النفوذ الروسي – فان ترامب مستعد لهذا ايضا.
يوم الاثنين، بينما كان في احدى المقابلات الغريبة التي تشهد على طبيعته واطلاعه، فشل المرشح في معرفة اساسية حين قال بالقطع ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «لا يسير نحو غزو اوكرانيا»، وبدا أنه لا يعرف، او لا يتذكر، بان بوتين غزا من قبل شبه جزيرة القرم.
ماذا يعني كل هذا من ناحية اسرائيل؟ السؤال الكبير هو هل ستكون اسرائيل حالة خاصة، بسبب هذا الشعور أو ذاك، أو بسبب معناه في الساحة السياسية؟ مهما يكن من أمر، من الواضح أنه سيكون لترامب، رغم ما قاله في الماضي، القليل جدا فقط من الاهتمام باحلال السلام بين اسرائيل والفلسطينيين. فهذه ليست مصلحة أميركية من الدرجة الاولى. من الواضح ايضا ان ترامب لن يكون رئيسا يرى قيمة عليا في توزيع اموال أميركا لاهداف المساعدات الخارجية، وهذا ضمن امور اخرى سبب وجيه للمسارعة الى التوقيع على اتفاق المساعدات للسنوات العشر القادمة مع إدارة اوباما.
وماذا عن ايران؟ لقد سبق لترامب أن قال ان الاتفاق مع ايران هو أحد اسوأ الاتفاقات التي تمت حتى الان. ولكن تشابه تقديره للاتفاق مع تقدير رئيس وزراء اسرائيل لا يعني بالضرورة أن يلغيه، او أن يغطي اتفاق بديل البنود المقلقة لاسرائيل. كل شيء منوط بمسألة هل وكم يقدر ترامب بان ايران هي خطر على أميركا. وفي هذه اللحظة، يبدو أن «داعش» يقلقه اكثر.