في ذاكرة المصالحة الفلسطينية

556
حجم الخط

كتب - أحمد سمير القدرة

تشهد فلسطين منذ عام 2006 حالة من الانقسام الفلسطيني غير المألوف في التاريخ الفلسطيني المعاصر, انقسام في القرار والمواقف والأفكار والتوجهات, انقسام أنهى المعنى الحقيقي لمفهوم الديمقراطية ودورية الانتخابات والتداول السلمي للسلطة والمشاركة السياسية والتعددية السياسية, وعطّل الحياة البرلمانية, وشّوه أركان النظام السياسي الفلسطيني, انقسام سد أفق التحرر والاستقلال وأخّر من بناء الدولة الفلسطينية المستقلة, انقسام متسمر يضرب بعرض الحائط أسمى القيم التاريخية والوطنية والثورية والإنسانية, انقسام استشرى في كل بقاع الوطن, ووضع بصماته في كل أرجاء الوطن, طال الصغير قبل الكبير, وترك آثاره وتداعياته على حياة المواطن, وأعطى الفرصة للاحتلال أن يمعن في تنفيذ مخططاته لتهويد القدس ومحاولة تقسيم الأقصى زماناً ومكاناً, ومصادرة الأراضي والتوسع في بناء المستوطنات, وتقطيع سبل التواصل بين المدن الفلسطينية شمالاً وجنوباً, والامعان في انكار كافة الحقوق الوطنية الفلسطينية, وضرب بعرض الحائط كافة القرارات الصادرة عن المجتمع الدولي بالحق الفلسطيني في وطنه وإقامة دولته المستقلة. ولو قمنا باستعادة الذاكرة قليلاً, سنجد أن ما آلت إليه الحالة الفلسطينية حتى يومنا هذا إنما مرده حالة الانقسام وعدم الثقة وغلبة المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية. فمنذ أن تم إجراء الانتخابات التشريعية الثانية في شهر يناير 2006, وفوز حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي, بدأت الخلافات الفلسطينية بالبروز على السطح بين حركة فتح وحماس, وبدأت معها جهود حثيثة لرأب الصدع بين طرفي الانقسام من خلال الوساطة الداخلية والخارجية, فبدأت الحوارات والمبادرات والتفاهمات والوثائق تصدر وتوقع دون حدوث أي تقدم يذكر على صعيد اتمام المصالحة الفلسطينية. فكانت البداية من الأسرى في سجون الاحتلال بطرح وثيقة الوفاق الوطني وتم التوقيع عليها في شهر مايو 2006, من كافة الفصائل الفلسطينية لتكون الأساس لأي حوار وطني فلسطيني للخروج من الأزمة التي بدأت تبرز, كما أن جمهورية مصر العربية رعت أكثر من ثلاثة عشر (13) اتفاق لوقف اطلاق نار وسرعان ما ينهار هذا الاتفاق, واستضافت المملكة العربية السعودية حواراً ثنائي أسفر عن توقيع اتفاق مكة في عام 2007, وتم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية, وبدأت مسيرة الحكومة محفوفة بالحذر والترقب, وما هي إلا أشهر قليلة ووصلت الخلافات حد التصادم المباشر بين فتح وحماس, تصادم مسلح أسفر عن سقوط العديد من القتلى والجرحى من كلا الطرفين, وانتهاك كافة المحرمات الفلسطينية وتجاوز الخطوط الحمراء, فحدث الانقسام الفلسطيني, وشُكلت حكومتين إحداهما في الضفة الغربية والأخرى في قطاع غزة.

واستمراراً في استعادة الذاكرة, قدمت الجمهورية اليمينة مبادرة للمصالحة الفلسطينية في عام 2008, على أساس اتفاق القاهرة 2005, واتفاق مكة 2007, لكن مُنيت هذه المبادرة بالفشل, وبقيت الحالة الفلسطينية المنقسمة تراوح مكانها, ويتجذر الانقسام ويستفحل أكثر في كافة مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, مع تصاعد وتيرة الاتهامات والتراشق الإعلامي والتضليل السياسي والتاريخي, وانسداد الأفق أمام أي محاولة لتقريب وجهات النظر بين الطرفين, وجاء عام 2009 حاملاً معه رؤية مصرية للمصالحة الفلسطينية, حيث ركز الحوار الوطني الفلسطيني الذي بدأ في القاهرة على معالجة كافة القضايا التي نجمت عن حالة الانقسام الفلسطيني، وذلك من خلال حوار شامل شاركت فيه كافة الفصائل والتنظيمات والقوى المستقلة، حيث تم تشكيل خمس لجان رئيسية (المصالحة, والحكومة, والأمن, والانتخابات, والمنظمة), إلا أن ما تم الاتفاق عليه بين الفصائل الفلسطينية لم ينفذ أي شيء منه على أرض الواقع, والقارئ لديباجية الاتفاق يتفاءل خيراً بما هو قادم, وبالرغم من الروح الإيجابية التي أثارها اتفاق القاهرة لكن الشيطان اتخذ مكاناً بين الأسطر, لتبقى الحالة الفلسطينية تراوح مكانها, ويبقى الانقسام الفلسطيني يتعمق ويتجذر ويستفحل يوماً بعد يوم.

في شهر مايو 2011 بادرت مصر بإعادة طرح الورقة المصرية للمصالحة الفلسطينية, مضافاً لها ملحق للتفاهمات التي جرت بين حركتي فتح وحماس, وتم التوقيع عليها بعد عدة أشهر من سقوط النظام المصري إلا أن ساكناً لم يتحرك بالرغم من أن الحالة التي كانت تمر بها الدول العربية, كانت تستدعي يقظة فلسطينية لتدارك الأمر والتوصل لاتفاق ينهي حالة الانقسام. بادرت قطر في 2012 برعاية طرفي الانقسام للشروع باستعادة الحوار الوطني الفلسطيني, بعد أن فشلت كل الجهود والوساطات الرامية لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في اتفاق القاهرة 2009/2011, وقد تضمن إعلان الدوحة "الاستمرار في خطوات تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وتطوريها من خلال إعادة تشكيل المجلس الوطني بشكل متزامن مع الانتخابات الرئاسية والتشريعية, وتشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة محمود عباس, تكون مهمتها تسهيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبدء بإعمار غزة, كما أكد على استمرار عمل اللجان المشكلة سابقاً".

وكغيره من الاتفاقات والتفاهمات, لم يُسجل أي تقدم وأي اختراق يذكر في ملف المصالحة الفلسطينية. استمر الانهيار الفلسطيني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً, إلى أن جاء عام 2014, ليتم التوقيع على اتفاق الشاطئ, والذي لم يكن بديلاً عن اتفاق القاهرة 2011, بل استكمالاً له, وعلى إثر التوقيع تم تشكيل حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني. إضافة إلى كل هذا, لم تتوانى الفصائل الفلسطينية لحظة في محاولات إنهاء الانقسام وكسر الجمود المصاحب لأي اتفاق وأي تفاهم يبرم من أجل الوحدة الوطنية الفلسطينية, ولكن يبقى السؤال المنطقي من خلال هذه الذاكرة, إلى أين وصلت المصالحة, وهل مازلنا نحتاج مبادرات واتفاقات أخرى لتتم المصالحة ويُنفذ ما تم الاتفاق عليه منذ القاهرة 2006 حتى الشاطئ 2014. وهنا, وبعد أن تم تشكيل حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني, وتم الاستبشار خيراً بإنهاء سنوات من الانقسام انعكست سلباً على مجمل القضية الفلسطينية, هذا التفاؤل سرعان ما تلاشى, مع مرور الأيام ومراوحة الاتفاق في موضعه دون حدوث أي تقدم يذكر وأي انجاز يُلمس, فكل ما تم الاتفاق عليه, حبيس الأوراق وأسير المصالح الحزبية الضيقة. فالحكومة عاجزة عن أداء مهامها في غزة, ولم يتم الدعوة لإجراء الانتخابات, ولم يُحل ملف موظفي حكومة غزة سابقاً, مع استمرار التراشق والإعلامي حتى في ظل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة صيف 2014. أضف إلى ذلك الحالة التي يعيشها سكان قطاع غزة, وهم الأكثر تضرراً من الانقسام, فالأزمات تتوالى تباعاً وتنوعاً دون أي حلول واقعية وجذرية, فمن أزمة الكهرباء المستمرة, واستمرار الحصار الإسرائيلي واغلاق معبر رفح, إلى عدم البدء في اعادة اعمار غزة, وتنامي ظاهرة البطالة والفقر, وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية, فلا شيء تغير, ليستمر الانقسام وتستمر معه معاناة الكل الفلسطيني, ويصل الأمر لدى المواطن الفلسطيني إلى فقد الثقة بجدية طرفي الانقسام من صدقية وحتمية ما يصرحون به.

إن المصالحة الفلسطينية, ليست بحاجة لأي حوارات وتفاهمات جديدة, وتشكيل لجان حل نهائي كتلك التي شُكلت بعد الزيارة الأخيرة لرئيس وزراء حكومة التوافق الفلسطيني الدكتور رامي الحمدلله 25 مارس 2015, إنما هي في أمس الحاجة لوجود نوايا صادقة من كلا الاطراف لإنهاء الانقسام, وعدم استرجاع ذاكرة السنوات السابقة, والمواقف الصادرة قديماً وحديثاً, وتغليب المصلحة الوطنية الفلسطينية على المصلحة الحزبية والشخصية, وإجراءات عملية تنفيذية لكل ما اتفق عليه, ووضع نصب العين قدسية القضية الفلسطينية والمعاناة التي يعيشها المواطن الفلسطيني طوال تلك السنوات, وتوحيد الخطاب السياسي والإعلامي, وتغليب الخطاب التصالحي عن أي خطاب تصادمي يزيد من الفجوة, وأن يتم الاستفادة من كل المتغيرات التي حصلت في المحيط العربي والإقليمي والدولي, وإلا فستستمر الذاكرة في إعادة نفسها كل فترة مع بقاء المصالحة الفلسطينية حبيسة الأوراق والأدراج, ويبقى المواطن الفلسطيني أسير الطرفي.

لقد شهدت فلسطين منذ عام 2006 حتى يومنا هذا, حالة من الاستقطابات والتحالفات من أجل استمرار الانقسام, خدمة للمشاريع التدميرية التي تخطط لها إسرائيل, من تهويد للقدس والتوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي, والتنكر لكافة الحقوق الفلسطينية, وتنفيذ العدوان تلوى الأخر على قطاع غزة, لقد شهدت المنطقة العربية منذ مطلع عام 2011, تغيرات دراماتيكية أسفرت عن سقوط أنظمة وصعود قوى وجماعات وتبدل للأدوار, وكل هذا لم يكن محفز لتحريك المصالحة خطوة واحدة في الاتجاه السليم. الأمر لا يتعلق بسرد تاريخي لمجمل ما تم استحضاره من اتفاقات وأوراق لتنفيذ المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني, فالأمر مُتعلق بكثرتها دون أي اختراق حقيقي ملموس تجاه المصالحة الوطنية الفلسطينية, بالرغم من أن ما يصدر من طرفي الانقسام من تصريحات عبر وسائل الإعلام المتنوعة يعطي مؤشراً بأن كلاهما راغبٌ في اتمام المصالحة, وفق ما تم التوقيع عليه في القاهرة والشاطئ وتغليب المصلحة الوطنية عن أي اعتبارات وأي مصلحة أخرى, باعتبار أن الجميع متفق على أن المصالحة ضرورة وحتمية وطنية, ولكن ما ينقص هو القرار السياسي من قبل الحركتين. أحمد سمير القدرة باحث في شؤون الشرق الأوسط