يكاد لا يمر يوم أو أيام، إلا ونسمع عن غرق أو عن إنقاذ بعض ممن يتركون بلدانهم وعائلاتهم، وبغض النظر عن الأسباب، ويهاجرون أو يلجؤون إلى بلاد الرفاه والحرية وبلاد حقوق الإنسان، ومعظم هؤلاء اللاجئين يأتون من بلدان فقيرة أو متعبة أو من مجتمعات منهكة أو تجتاحها الحروب والفقر والكبت وما إلى ذلك، وهم يطمحون الى حياة جديدة بين مجتمعات سمعوا عنها الكثير وقرؤوا عن الحرية والرفاه والعدل والمساواة التي تتمتع بها شعوبها، بعيداً عن الواقع الحقيقي لهذه البلدان، التي في الواقع، جل همها المصالح الاقتصادية، وبالتالي العمال والشباب المتعلم والذي فقط يحتاج الى تدريب وتأهيل بسيط، لكي يبدأ يساهم في زيادة الناتج القومي الإجمالي، وفي سد النقص في أعداد السكان وفي تعبئة الكثير من الثغرات الاجتماعية التي باتت تنخر في جسد هذه المجتمعات.
والمصالح الاقتصادية من اللاجئين هو ما يفسر القرار المفاجئ للحكومة الألمانية باستقبال عشرات وربما مئات الآلاف من اللاجئين، والذين في معظمهم من العرب، اي من السوريين والعراقيين وبينهم فلسطينيون، حيث تساءل العديد عن مغزى هذا القرار، أو عن هذا التسامح أو عن الانفتاح غير المتوقع على اللاجئين والمهاجرين، وبالأخص في ظل حاجة أقوى الاقتصاديات في أوروبا، والتي تعتبر من الأقوى في العالم، اي الاقتصاد الألماني، حاجة هذا الاقتصاد، الى الأيدي العاملة الرخيصة والجاهزة للعمل، سواء الآن أو في المدى القريب، وبالأخص في ظل تآكل الأيادي العاملة الشابة وازدياد شيخوخة المجتمع الألماني وغيره من المجتمعات الأوروبية، ونحن نشاهد ان غالبية هؤلاء اللاجئين هم من الشباب الجاهز وبل المدرب للعمل وفي اسرع وقت ممكن.
ومأساة اللاجئين في العالم في هذه الأيام، وغالبيتهم من منطقتنا، تعتبر من أضخم المآسي الإنسانية في العصر الحديث، وربما تبدو مأساة اللاجئين الفلسطينيين بالمقارنة معها مأساة صغيرة، حيث هناك الملايين من اللاجئين السوريين الذين يهربون من الجحيم في بلادهم، الى كل الاتجاهات في هذا العالم، ومنهم النساء والأطفال والعائلات بأكملها، والمحزن بشدة هنا، أن هؤلاء اللاجئين يهربون او يتم تشريدهم من خلال أبناء جلدتهم، أي أن أبناء الشعب الواحد هم من يقوم بذلك، وليس الغرباء أو الأجانب الذين قدموا لكي يحتلوا بلادهم ويحلون مكانهم.
ومأساة ملايين اللاجئين هذه الأيام، تعتبر عاراً وفشلاً كبيراً للمنظومة الدولية، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، وسواء على مستوى العمل الأهلي أو المنظمات الدولية، والتي من الواضح أن حجم وتفاقم المأساة باتت اكبر بكثير من طاقاتها ومن طبيعة عملها، وهذه المأساة جاءت لتثبت مرة أُخرى ان التبجح بالمفاهيم الإنسانية وحقوق الإنسان يتلاشى، أمام المصالح وأمام السياسات ومراكز القوى والتجاذبات وأمام السعي الى السيطرة واثبات الوجود.
ومع استمرار دوامة اللجوء، وبالتالي مواجهة الموت بأشكاله المختلفة، سواء من خلال الاختناق أو من خلال الاحتراق داخل شاحنة أو صهريج فارغ، أو الموت من خلال الغرق في مياه البحر المظلمة أو كطعام للأسماك، أو من خلال الموت بالرصاص خلال المطاردة على حدود العديد من الدول، او من خلال البرد الشديد أو بسبب الاكتظاظ الرهيب أو سوء التغذية أو الأمراض، في المخيمات الكثيرة المنتشرة في دول بعيدة وقريبة، تتواصل المأساة المحزنة.
وسوف تبقى هذه المأساة، درساً وعبرة وتذكير للفلسطينيين ان قضية اللاجئين ما زالت قائمة، وان تداعيات اللجوء قبل حوالي سبعين عاما، أو اللجوء الثاني والثالث وربما الرابع للفلسطينيين تظهر أنها ما زالت متواصلة، وانه لا حلول جذرية طبيعية وعملية، لأية قضية لاجئين، سواء عندنا او عند غيرنا، إلا من خلال العودة إلى الأرض والى الوطن والى الحياة التي لا يمكن طمسها، مهما كانت اكثر صور اللجوء حضارة وارتقاء ورفاهية.
وفي نفس الوقت سوف تبقى صورة الأطفال اللاجئين على شاطئ البحر، تطارد الكثير من الناس ومن الدول ومن المسؤولين المباشرين وغير المباشرين، عما يحدث في سورية أو في غيرها من الدول العربية، وبالأخص المسؤولين العرب، وكذلك زعماء العالم الحر كما يدعون، وسوف تبقى مأساة ملايين اللاجئين هذه الأيام مأساة العصر بامتياز، وتبقى الدليل القاطع على فشل البعد الإنساني او الحضاري العملي، للشعارات الكثيرة التي يتم طرحها، ويضيع هذا البعد في ظل الحاجة الاقتصادية الملحة، للشباب وللأيادي العاملة، في بعض الدول والمجتمعات التي تنادي بحقوق الإنسان.