يتعرض الرئيس الفلسطينى محمود عباس إلى أقسى أنواع الانتقاد سواء داخليا أو خارجيا موصوما بالعجز والضعف وعدم إنجاز أي ملف وطنى منذ توليه رئاسة السلطة الفلسطينية، وتتنامى الأصوات المطالبة بالتغيير وضخ دماء جديدة في شرايين القرار الفلسطينى، عباس الرجل الثمانينى العجوز الذي آثر السلامة والاستسلام طوال فترة حكمه منذ وفاة الراحل القائد ياسر عرفات، لم تشهد فترة حكمه أي ملمح يدفع القضية الفلسطينية إلى الأمام، بل تميزت بالتراجع واستشراء الاستيطان في الضفة الغربية كحزام ناسف سيقضى على ما تبقى من هوية وكيان فلسطينى، وفشل ذريع في المفاوضات التي استنزفت الطاقات الفلسطينية وهى تراوح مكانها دون أي تقدم يذكر، فضلا عن التراجع الواضح في الاهتمام بالقضية الفلسطينية نظرا لانشغال العالم بمحاربة الإرهاب وداعش الطفيلى الذي ضرب استقرار الدول وحولها إلى مسرحا لعملياته الإرهابية، بالإضافة إلى انشغال العالم العربى بخلافاته وانقساماته ومشاكله الداخلية المترتبة على ثورات خريف غزت المنطقة تحت عنوان نزيه «عيش حرية عدالة اجتماعية» سرعان ما تبدلت معانيها إلى هدم وتدمير وانهيارات اقتصادية متتالية ضربت عصب منطقة الشرق الأوسط بأسرها.
في هذا المارثون المسعور انشغل العالم وأدار ظهره لقضية استمرت حية صداحة لعقود بفضل قائد ذو كاريزما كان يديرها حتى وإن واجه أحلك الظروف وأعتى العواصف السياسية من الأصدقاء قبل الأعداء، إنه القائد والرمز الراحل ياسر عرفات «أبوعمار» الذي تحل ذكرى ميلاده، لتنكأ الأحزان والمقارنة بين ما كان وما وصل إليه حال القضية الفلسطينية وشعبها من انحسار في الاهتمام الدولى وتجاهل عربى وتقوية لأطراف على أخرى كى تتلاشى وتنتهى، بل وصل الحال إلى حذف اسم فلسطين من عملاقة الإنترنت جوجل واستبدلته باسم إسرائيل في نهاية شهر يونيو الماضى حتى على مناطق 67 (الضفة الغربية وغزة) المعترف بها كفلسطين المحتلة، في خطوة تتعارض مع كافة المعايير والمواثيق الدولية دون أن يكترث أحد أو تلفت الانتباه حتى بالاحتجاج أو التعليق وهو أضعف الإيمان!
تحل ذكرى ميلاد الرئيس الراحل أبوعمار وتشتعل معها المقارنة بين من كان وما هو موجود، ياسر عرفات كان الأب والوالد والرمز، كان الكاريزما التي أقر بها أعداءه قبل أصدقاءه، تميز بالحاسة السادسة التي حيرت إسرائيل، الذكاء السياسى والفطنة الثورية التي أدار بها زخم القضية الفلسطينية طوال سنوات حياته النضالية، يقول زملاء الرئيس الراحل ياسر عرفات إنه كان يجد متعة فائقة في متابعته لكافة قضايا شعبه طوال اليوم وجزء من الليل في الظروف العادية، كان عرفات يهتم بكافة القضايا الإنسانية المتعلقة بالأم والطفل، وينادى بحياة أفضل للأسرة والمجتمع والإنسانية جمعاء، فتبنى أبناء الشهداء وأقام دور للأيتام واهتم بالمرأة الفلسطينية ودعم قضايا حقوق الإنسان.. كان يشرف بشكل يومى ومباشر على قضايا الشعب الفلسطينى المصيرية، ويتابع تطور العمل في مختلف مؤسسات الوطن، خصوصا الجهاز القضائى والتشريعى تمهيدا لإرساء دولة القانون والمؤسسات.
أبوعمار الذي ولد في الرابع من شهر أغسطس 1929، واستشهد في الحادى عشر من شهر نوفمبر عام 2004 وسط مشاعر محفوفة بالأسى والإحساس بالغدر- مازالت قصة وفاته مثار جدل وشكوك بأنه قد تعرض للتسمم من قبل إسرائيل ولم يكشف عن ملابساتها رغم أن أصداءها مازالت ماثلة في الأذهان حتى الآن- وعى جيدا أبعاد النكبة التي حلت بشعبه عام 1948، فقرر أن يسخر حياته لإزالة آثارها وعودة الحقوق إلى أصحابها، رافعا شعلة أضاءت الظلام نحو فلسطين، واستطاع أن يعيد القضية الفلسطينية إلى فلسطينيتها، بعد أن غلفتها شعارات التيه والضياع ردحا من الزمن، ظاهرها رحمة وباطنها المؤامرات والدسائس، وأمضى حياته فارسا ومناضلا بطلا وسياسيا محنكا، ومع ذلك رفع غصن الزيتون مرتين، مرة عام 1974 عندما ألقى كلمة فلسطين في الأمم المتحدة، والأخرى عام 1993 عندما نادى للعمل من أجل سلام الشجعان عند توقيع اتفاقية إعلان المبادئ في واشنطن، داعيا للعمل من أجل السلام القائم على العدل، لا السلام القائم على الظلم والاضطهاد.
وعندما أصبح أبوعمار عبئا على المجتمع الدولى وخطرا يداهم إسرائيل، قررت الأخيرة التخلص منه وسط انقسام دولى مابين الولايات المتحدة من جانب، ودول العالم من جانب آخر إزاء هذا القرار الخطير، ورغم تصويت هذه الدول وتحديدا دول الاتحاد الأوروبى ضد القرار الإسرائيلى في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أن إسرائيل مضت قدما في تنفيذه متحدية كعادتها كل القرارات الدولية، ضاربة عرض الحائط شرعيتها وهيبتها الأممية.
أصبح أبوعمار منذ ذلك الحين أحد أشهر الشخصيات في العالم بأسره، ونجح في غرس صورته المميزة بوجه باسم، ويد مرتفعة بعلامة النصر تارة، أو يدين متشابكتين تارة أخرى، وحتى عندما حاصرته إسرائيل نحو ثلاث سنوات في مقره المدمر بالمقاطعة في رام الله، لم يتخل الرجل عن ملامح شخصيته الفريدة وكثيرا ما ردد عبارته الشهيرة «يا جبل ما يهزك ريح» كرد ساخر من المحاولات الإسرائيلية للقضاء عليه سياسيا ومعنويا.
ومع ذكرى ميلاده تتجدد الحسرة على رحيله وفقدانه كرمز وأب لكل الفلسطينيين الذين شعروا باليتم منذ رحيله، خاصة مع تدهور الأوضاع السياسية الفلسطينية والانقسام الجيوسياسى الذي مزق وحدتهم وأضاع هيبة قضيتهم وقذفها في أتون صراع سياسى وأيديولوجى شتت مسارهم وانحرفت البوصلة عن فلسطين الجامعة لينخر في جسدها سوس التفرقة، فتاهت القضية وضاعت أحلام الشعب في استردادها وإجبار المجتمع الدولى للاهتمام بها من جديد، وسط تبادل الاتهامات والتشرذم السياسى وإلقاء المسؤولية كل على الآخر، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على ضعف القيادة وعجزها عن توحيد الصف واحتوائه، مثلما كان يفعل الراحل ياسر عرفات.
عن المصري اليوم