عن الحراك المجتمعي الأردني

عبد الغني سلامة
حجم الخط

الأردن، مثل أي بلد آخر، فيه شريحة متعلمة متنورة تضم كافة ألوان الطيف السياسي، من اليمين إلى اليسار، لكن الأحزاب الأردنية لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من المجتمع.
ورغم الشكل الديمقراطي لنظام الحكم، إلا أن الأحزاب لم تأت نتيجة تطور حالة سياسية/نقابية/جماهيرية نمت في أجواء طبيعية؛ لذلك لا تجد في الأردن كتلاً سياسية تاريخية تتبادل الأدوار بين السلطة والمعارضة.
وتاريخيا، كان الحزب الوحيد المسموح له بالعمل هم الإخوان المسلمون، فمنذ الأربعينيات من القرن الماضي اقترنت هذه الجماعة بالنظام، وكان لها مقرات في عموم المحافظات، ولفترة طويلة سيطرت على أغلب المساجد ودور تحفيظ القرآن والعديد من المراكز الثقافية، حتى وزارة التربية والتعليم.. بينما كانت الأحزاب الأخرى (بما فيها الإسلامية) تتعرض للقمع وتُمنع من ممارسة أي نشاط.. هذا الأمر مكّن الإخوان من الانفراد بالساحة، ليعملوا بهدوء وتواصل على تشريب المجتمع مفردات الأيديولوجية الإخوانية، وتكييف وعيه وعقله الباطن بكل ما تتضمنه من أفكار وقيم، وكان أثر ذلك واضحا على الأجيال، في ممارساتهم وطرائق تفكيرهم..
وطبعا، ليس الإخوان وحدهم من يتحمل مسؤولية صياغة الوعي الجمعي للمجتمع الأردني، فثمة عوامل أخرى مهمة، منها مثلا التركيبة السكانية الفريدة من نوعها، وتركُّز النسبة الأكبر من السكان في مدن نمت سريعا، وبشكل مشوّه، وبسرعة تفوق قدرة السكان على التكيف والمواءمة معها، وبطريقة لا تلبي احتياجاتهم، ولا تعبر عن مصالحهم بالضرورة. بالإضافة للأزمة الاقتصادية المزمنة، والتي ظلت دوما تنتج طوابير العاطلين عن العمل، وتزيد من حجم الشرائح التي تنزل تحت خط الفقر، وتعمل بلا توقف على تآكل الطبقة الوسطى، وزيادة الهوة بين الطبقات، لصالح فئة محدودة جدا من الأثرياء.
ومن ناحية ثانية، لم تمثل النخب الاقتصادية المسيطرة تعبيرا عن برجوازية وطنية، من المفترض أن تلعب دورا رياديا في عمليات التنمية، بل كانت طبقة طفيلية، انضمت إليها فئات من أثرياء غير أردنيين اندمجوا في المجتمع بأعداد كبيرة.. وكان أثرهم سلبيا خاصة على زيادة معدلات الغلاء.
والعامل الآخر تمثل في ضعف أواصر الثقة بين الشعب من جهة والنظام من جهة ثانية، وخاصة تجاه الحكومات المتعاقبة، وما شابها من قضايا فساد؛ فصار شعور المواطن تجاه المشروع الوطني الأردني، وتجاه الرسالة التي تمثلها الدولة شعورا ضبابيا هشّـاَ، وكأنَّ كل ما يُقال على لسان المسؤولين مجرد شعارات فقط، لا تعني المواطن بشيء.. في النتيجة صار وجدان المواطن واهتمامه ينصبان بدرجة أكبر نحو مشاريع سياسية خارجية (تركيا مثلا).
في المحصلة، ترسخت المفاهيم الدينية أكثر في المجتمع الأردني، حتى صار أقرب للمجتمعات الدينية.. لكن هذا التوجه أخذ مسارا شكلانيا يُعنى بالمظاهر الدينية على حساب الجوهر، فأتى بشكل ومحتوى يختلف عمّا تمثله روح الدين الإسلامي بأبعاده الحضارية والإنسانية والتقدمية.. أتى اقرب للأيديولوجية الوهابية المتزمتة.
لعل آخر الأحداث في الساحة الأردنية والتي تشير إلى معالم ومظاهر هذا التوجه، حادثة مصرع الشاب «شادي أبو جابر» في حادث سير مؤسف، وما تبعها من تعليقات زعم أصحابها أن الرحمة لا تجوز لغير المسلمين، واستكثروا عليه كلمة «الله يرحمه»!!
المجتمع الأردني لا يختلف كثيرا عن المجتمع الفلسطيني، فقبل سنوات رحل عن عالمنا الزعيم الكبير «جورج حبش»، وحينها أيضا استكثر البعض على هذا القائد العظيم الذي نذر حياته كلها لفلسطين، استكثروا عليه عبارة «رحمه الله»!!
وهذه ليست مؤشرات على تفشي الطائفية، بقدر ما هي تعبير عن عقلية متزمتة إقصائية، تريد أن تحتكر الله لها، وأن تحرم الآخرين من رحمته، وتسلبهم حقهم في أن يكونوا عباده على طريقتهم المختلفة، وبالتالي إيجاد المبرر لمحاربتهم والقضاء عليهم كليا (طالما أنهم مطرودون من رحمة الله)..
أما الطائفية، فقد أخذت تتوضح أكثر فأكثر في المجتمع الأردني (والفلسطيني)، أسوة بالمجتمعات العربية التي أبتليت بهذا الداء.. والغريب، أن الأردن الذي ظلَّ لقرون طويلة وهو في حالة متميزة من التعايش الإسلامي المسيحي، وتقريبا دون أي فكر طائفي.. بدلا من الاستفادة من التجارب المريرة التي عانت منها بلدان الجوار من جراء الطائفية، وما جرته من كوارث وويلات على شعوبها، نلاحظ تغلغل الفكر الطائفي، وخاصة لدى الأجيال الجديدة، وهذا بدا جليا في تعليقات ومنشورات موجهة ضد الشيعة، تصفهم بأقبح الصفات!! ومع أن الأردن لا توجد فيه طائفة شيعية، إلا أن مثل هذا التفكير يمهد الطريق لحرب أهلية، ستكون بين أي طرفين يختلفان فيما بينهما على أتفه الأشياء.
وإلى جانب النهج الإقصائي، والنفَس الطائفي، أخذ التطرف والتشدد يزدادان شيئا فشيئا في المجتمع الأردني، وتحديدا في العقد الأخير.. فنلاحظ مثلا غياب روح التسامح بين المتحاورين، لتحل محلها لغة التهديد والشتم والقذف، والتوصيفات العنيفة في العبارات المستخدمة إزاء أي حدث، سواء من قبل المؤيدين أم المعارضين.. ما يدل على الحجم المخيف للغضب والسخط والاحتقان.
وأيضا، نلاحظ تزايد حدة الحرب على كل مظاهر الفن والجمال، كما حدث مؤخرا مع مهرجان جرش، وهذه ليست المرة الأولى، فجماعة الإخوان تناصب هذا المهرجان العداء منذ دورته الأولى قبل عشرات السنين.. وفي كل مرة تربطه بالفسق والمجون والخلاعة.. وكذلك زيادة التزمت إزاء كل ما يتصل بالمرأة.. وكأن البلد يتخلى تدريجيا عن روح المدينية والتحضر وحب الحياة لصالح قيم جافة، تخلو من الحياة، وأحيانا تعاديها.. أو حتى أنه في بعض الأحيان يتحلل من إنسانيته تحت تأثير الأيديولوجية المتشددة.. وخطورة هذا التوجه أنه يترافق مع (وينتج عن) حالة كبت جنسي، مع أزمة اقتصادية خانقة.
الإخوان صاروا حالة متقدمة جدا مقارنة بالحركات السلفية، التي وصلت بها الأمور حد المجاهرة بتأييد داعش، ومبايعة البغدادي.. عندما حضر الداعية السعودي «العريفي» للأردن، خرج لاستقباله الألوف، ولم يجرؤ أحد على انتقاده بكلمة، رغم خطبه وعباراته التي تطفح بالطائفية والتحريض على الكراهية والتزمت...
تلك مجرد مؤشرات، لكنها خطيرة ومخيفة.. وعلى أولي الأمر التنبه إليها قبل فوات الأوان.. مع ملاحظة مهمة، وهي أن هذا التحليل ينطبق بصورة كبيرة على كل البلدان العربية تقريبا.. حتى لا يظن أحد أنه بريء من التخلف.