ببالغ الأسف والأسى ننعى إليكم مخيم اليرموك الذي انتقل إلى رحمته تعالى عن عمر يناهز عمر الجوع إثر حادث مؤسف على أوتوستراد الموت أودى بعاصمة الشتات في مزبلة «السكراب «الوطني ، ونجى منه كل من الرئيسين: الفلسطيني والسوري، بالإضافة إلى قيادات الفصائل «المتطاوشة» فيما بينها وكل الآلهة السياسيين الذين اتفقوا على بيان يتيم وموحد يفيد بسقوط الجنة في أيدي أمراء الجحيم؟ فهل أدلك يا ربي على فلسطين!
«مئة وعشرون كلمة أو ما يقاربها – أي ما يعادل تغريدة على تويتر – كتبها وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفورعام 1917 إلى التاجر المصرفي وعالم الحيوان ليونيل وولتر دي روتشيلد ، يبارك قيام دولة صهيونية في فلسطين»… هكذا ابتدأ جورج غالوي السياسي البريطاني برنامجه « كلمة حرة» على قناة الميادين، في حين كان مخيم اليرموك يغلي بمجرمي الحرب على قناة «الغد العربي»، و يختبئ في عين كاميرا خرجت من فوهة مدفعية في ثكنة «الجبهة الشعبية» على قناة «العالم»!
أكثر المشاهد مرارة هي تلك التي ظهرت فيها امرأة عجوز إلى جانب زوجها المقعد وهي تبكي الجوع والحصار، والمرض الخبيث الذي استبد بها ، مناشدة إخراجها وزوجها من المخيم في حين كان هو يربت على ذراعها ،وهي تطلق رصاصة الرحمة الأخيرة من قلب المخيم: خذونا عند اليهود أرحم!
المشهد برمته موجع و الصورة تقطر حنظلا ، والموت هو البوستر الإعلامي للنكتة السياسية، التي لا تكلف نفسها البحث عن النصف المقصوص من الصورة، فياسر عرفات الذي رحل وترك لنا خلفه إرثا ثقيلا من النكبات التفاوضية المتفتقة من رحم أوسلو بحسب «جورج غالوي»، أبقى على الشتات عاصمة للوطن، كأنه لم يكن يعلم أن المخيمات هي سفن نوح المثقوبة، وماركة مسجلة لتصفية الحسابات السياسية أكثر منها مأوى للمهجرين قسريا!
ألعاب نارية في جهنم
حسب التحليل الذي قدمه موسى العمر في برنامجه «المنبر السوري» على قناة «الغد العربي» ليلة الثلاثاء ، فإن لعبة التحالفات والاشتباكات بين المتطاوشين خضعت إلى تصفية حسابات قوامها الانتقام، فاستعار جهنم في المخيم تلخصه التركيبة القتالية فيه والتي تجعل منه أكبر بؤرة خطر على دمشق لأنه يشكل الخاصرة الرئيسية إليها ، ف»الدولة الإسلامية» التي تنحسر في الحجر الأسود جنوبا، و»النصرة» التي تتمركز في التضامن شرقا، تشكلان فكي كماشة ، قد لا تكلف أحد الطرفين سوى حفر نفق يوصل المتطرفين إلى عمق الأحياء الدمشقية القديمة، ولا يستبعد أن نرى أبا صياح القائد الداعشي يظهر فجأة هناك برفقة أبي سالم العراقي وهما يأكلان الشاورما ويشربان العرقسوس! كما تنبأ العمر!
أطلقت شرارة الألعاب النارية في المخيم بعد اغتيال الناشط الحمساوي يحيى الحوراني، حيث اتهمت جماعة «أكناف بيت المقدس» التابعة لحماس تنظيم الدولة بتصفيته، فاقتحمت منازلهم ورد التنظيم باقتحام المخيم، ومن سلم نفسه للنصرة فهو آمن، وقد تم ذلك، حتى تمكن بعض الأكناف من الفرار، لأن النصرة في اليوموك هي غيرها في بقية الأحياء ولها حساباتها الثأرية الخاصة بها ضد من تحالفوا مع النظام لطردها بحجة إيصال المساعدات للمخيم، هذا كله أدى للقضاء على ثلة كبيرة من الأكناف لم يتبق منها سوى جيب صغير قرب المركز الثقافي … فإلى متى يدفع المخيم ثمن هذه التصفيات من لحم أبنائه وجوعهم وبكاءاتهم من الفرقعات النارية التي تمارس لعبة «الطاخ طيخ» بمصيرهم وخوفهم وتشردهم ؟ إنها حسابات ثأرية ، والمخيم فيها ليس أكثر من كرت على البيعة ، فهل نحن والمخيم لم نزل جيران ؟ إننا مطالبون الآن بأن نكون مخيمجية، نتبرأ من المشاهد المغشوشة في غرف المونتاج الإعلامية، وفبركة الصور في الكاميرات الخفية، لأن الموت يصبح سياقا غوائيا للفضائيات التي تتسابق على التقاط الصور الأكثر إثارة، فهل تفنى الصورة بيولوجيا كالجثة! هل يمنطق النظام البصري ذلك النسيج المتشابك من العلاقة بين الصور وأصحابها؟
الحقيقة ليست مهمة إذن، لأنك حينما تشاهد هذا الانهيار لن تبحث سوى عن المخيلة، و هنا يتجلى البعد الإدراكي لما وراء الصورة، بعيدا عن مستوى المطابقة بين الشقين ومستوى الإيحاء بهما ، وكله ينطوي تحت مواثيق الشرف الصحفية ، فتسليع الموت غواية قد تتجاوز تواليات القيم والأخلاق كأعراف مهنية عليا ، و كل ما يحتاجه جنود الباباراتزي هو تحويل الحدث إلى صورة افتراضية بتقنية الأبعاد الثلاثية ، لترى الموت حيلة أو خدعة سينمائية و الجريمة هي نقطة الظل الخفي في النفق ، النقطة العمياء في عين الكاميرا، والتي لن تحتاج إلى أكثر من تعليق أو كبسة إعجاب على مواقع التواصل الإجتماعي!
أدران العيب
أحمد جبريل القيادي الفلسطيني الأبرز للجبهة الشعبية، في لقائه مع برنامج حديث على قناة الميادين 2015، استنكر مناشدة عباس في قمة شرم الشيخ لعاصفة حزم في غزة، في حين لم يفكر بمناشدة إنسانية تنقذ أهل المخيمات من قيامات الخراب، ومرجوحة النار في سيرك التصفيات السياسية، وهذا ليس غريبا على السيد عباس، فحماس بالنسبة إليه دمل يعتمل بالصديد والخلايا الميتة في فروة الرأس الفلسطينية، وهي عنده أكبر خطرا من الورم الصهيوني الخبيث، فهل هزلت!
عباس الذي سارع – حسب جبريل – إلى الاستنجاد بالنظام السوري ووعده بتوفير تغطية سياسية له لحماية المخيم من المتطرفين وتخفيف الضغط عن المخيم من الجبهتين الشرقية والجنوبية، جاء متأخرا ، بعد ( تفركش) الحسابات، وخيانة النصرة لحماس التي سارع قائدها « خالد مشعل « للاستنجاد بالجبهة الشعبية في المخيم لحماية أكناف بيت المقدس ، ورغم أن الجبهة حاولت قبل عام استمالة الحمساويين الذين رفضوا التحالف معها، إلا أن جبريل سارع لتلبية نداء الاستغاثة ، مطالبا مشعل بالإمدادات المادية اللازمة، وعباس بعدم ( النطنطة) فوق حلبة مطاطية، وحصر القضية في ضرورة فتق الدمامل الحمساوية.
فرجة رخيصة
في «ما وراء الخبر» على قناة «الجزيرة»، يصبح الصراع ليس مع تركيا إنما عليها، ونحن نراها تلعب دور الوسيط بين إيران والدول العربية، فهل يحتاج العرب إلى وسيط مع إيران التي أتتهم مفاوضة قبل اندساس أمريكا في ورقة المفاوضات النووية؟!
الخطاب الأمريكي حسب تقرير ماوراء الخبر، يدعو لحقن الدم في اليمن ، واليمن عند تركيا وإيران هي تحصيل حاصل ، لأن الورقة الأهم بين السلطة العثمانية والفرس هي سوريا ، فكيف تلعب هذه المحاور الثلاثة دور المهدئ التخديري للعرب الذين يتطاحنون فيما بينهم على مرأى العالم الذي يسعى أمام الكاميرات لوقف الإخوة الأعداء عن الاحتراب وشد الشعر والعضعضة السامة ؟! يا الله ، يا إلهي ، أصبحنا نحن إذن العلة ، فماذا سيكتب التاريخ عنا ونحن نرى فرقا إعلامية مهيبة تمشي في جنازة العروبة، التي سقطت ضحية لنفسها قبل غيرها ؟ صدق جورج غالوي إذن في برنامجه « كلمة حرة» حين ألقى باللوم أولا وأخيرا على التخاذل العربي، والخيانات، وحسابات السلطة والمال، متسائلا: هل تريدون من الشعوب الأوروبية أن تحرر لكم فلسطين وأنتم أبناء عروبتها أدخلتم كل زناة الليل إلى غرفتها – مع عدم الاعتذار عن إقحام مظفر في استنكار غالوي – أما الزعيم الصيني قال لعرفات : أنتم لستم جادين بشأن القدس ، لأنكم لو مشيتم إليها سيرا على الأقدام لحررتموها منذ عقود ولكنكم لم تفعلوا!
الآن فقط أصبحت حصتنا في التغطية الإعلامية هي حصة الأسد، بعد نكسة التعتيم الإعلامي على مجازر الصهاينة في غزة ومعركة الأمعاء الخاوية في سجون الاحتلال، حتى أن رئيس العلاقات العامة في البي بي سي البريطانية – اسكتلندا رد على اعتراض المتظاهرين على التغطية العمياء لأحداث فلسطين: «إننا نهتم فقط بتغطية أخبار أصحاب الياقات البيضاء العالية فوق الخمسين»!
لم يتبق لنا بعد عمليات التنويم الفضائية سوى أن نرفع كأس غوار ، ونحن نهتف على وقع التصفيق الحار من قاعة العرض : «الله وكيلك يا أبي صرنا فرجة»!
كاتبة فلسطينية تقيم في لندن
لينا أبو بكر