عقد مركز مسارات مؤتمرا يحمل هذا العنوان، وكان من المفترض أن يشارك فيه 200 - 300 مشارك، في حين حضر المؤتمر أكثر من 700 مشارك في ثلاث قاعات، من مختلف مدن الضفة والقطاع وأراضي 48 وبيروت، ما يدل على ضيق متزايد من استمرار الانقسام، كما ظهر من خلال الدعوة التي تكاد تكون إجماعية وترددت أصداؤها خلال جلسات المؤتمر بأنه لم يعد هناك متسع كبير من الوقت للتنظير، وإنما تستوجب الآثار المدمرة للانقسام الشروع في توليد حالة شعبية ضاغطة متراكمة لا تتوقف ولا تهدأ إلا عندما يفرض الشعب إرادته بإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية.
وقَدَّمتُ خلال افتتاح المؤتمر مداخلة عرضت فيها الأسس التي حكمت الجهود والمبادرات والاتفاقات التي وُقِّعت لتحقيق الوحدة والتي كانت وراء الفشل، وستحكم على أية جهود لاحقة بالفشل إذا أعيد إنتاجها. وتناولت خلال العرض ثلاثة نماذج من العقبات التي حالت دون نجاح الجهود المبذولة لتحقيق الوحدة، وهي الخلافات على عقد وتفعيل الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، والمجلس التشريعي، وكيفية توحيد المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية، فبيّنت أن ما يحول دون عقد الإطار القيادي المؤقت هو استحالة تطبيقه ما لم تقدم «حماس» شيئا مقابل ذلك، فالرئيس و»فتح» لا يمكن أن يمكّنوا «حماس» من الانخراط في المنظمة والحصول على الشرعية دون أن تتخلى عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، بينما «حماس» لا يمكن أن تتخلى عن السلطة في غزة دون أن تضمن المشاركة الفاعلة في السلطة والمنظمة وإنهاء هيمنة «فتح» عليهما. وهذا يعني أن الحل ممكن، بحيث تتخلى «حماس» عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة مقابل تخلي «فتح» عن هيمنتها على النظام السياسي بمختلف مكوناته.
أما بالنسبة إلى عقد المجلس التشريعي المنصوص عليه في كل الاتفاقات، فترى «فتح» أن المدة القانونية له انتهت (كما انتهت مدة الرئيس)، وتخشى إذا وافقت على تفعيله أن توظف «حماس» أغلبيتها فيه للتحكم في الحكم، وفي إصدار القوانين، وأن يتولى رئيس المجلس الرئاسة لمدة ستين يوما في حال شغور منصب الرئيس إلى حين إجراء الانتخابات التي لا يستطيع أحد ضمان إجرائها. كما أن «فتح» غير مطمئنة للالتزام بالحل الذي تم التوصل إليه بعد تدخل وسطاء والمتضمن بألا يُعرض على المجلس أية مواضيع من دون اتفاق الكتل النيابية عليها أولا. ويكون حل هذه العقدة بالتوصل إلى توافق وطني على توسيع الإطار القيادي المؤقت ليضم ممثلين عن المرأة والشباب والشتات والمجتمع المدني، أو مجلسا تأسيسيا إلى حين إجراء الانتخابات وعقد المجلس الوطني الجديد.
أما مسألة توحيد المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية، فتقترح «فتح» عودة مؤسسات السلطة التي تقودها إلى قطاع غزة، على أن تقوم اللجنة الإدارية والقانونية باستيعاب الموظفين الذين عينتهم «حماس» دون التزام مسبق بتعيينهم جميعهم، أما «حماس» فتطرح عكس ذلك تماما من خلال بقاء من عينتهم واستيعاب «المستنكفين». والمخرج من هذه العقدة يكون بتشكيل لجنة وطنية إدارية قانونية تقوم بمراجعة شاملة للهيكل الوظيفي الإداري والأمني للسلطة، وإعادة بنائه على أساس الأولويات والاحتياجات والتحديات والحقائق الجديدة، على أسس وطنية ومهنية بعيدا عن الحزبية والفصائلية، وتخدم الرؤية الوطنية التي يأمل الفلسطينيون للتوصل إليها بسرعة لأنهم بأمس الحاجة لها.
وتطرقت في مداخلتي إلى الأسباب التي تحول دون إنجاز الوحدة، ومن أبرزها: تمتع الفصيلين الكبيرين المسؤولين عن الانقسام (فتح وحماس) بقوة وجماهيرية كبيرة، ولا يزالان يسيطران على سلطتين واقعتين تحت الاحتلال، بينما الفصائل الأخرى ومنظمات المجتمع المدني ضعيفة ومشرذمة ومبعثرة، وغير قادرة على بلورة تيار ثالث قوي قادر على تحريك الشعب ليفرض إرادته بالوحدة على طرفي الانقسام.
ومن الأسباب التي تحول دون إنهاء الانقسام تخويف الشعب من الوحدة، عبر تضليله بأن الوحدة تعني تعميم الحصار والدمار والعدوان والحصار الذي يعيشه قطاع غزة، خصوصا في الضفة، في المقابل لا تشعر جماهير شعبنا في أراضي 48 وفي الشتات بأنها معنية مباشرة بالوحدة، لأن الوحدة الجاري العمل عليها تنحصر بتوحيد الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى تغييب أو تأجيل القضايا الجوهرية التي تخص الكل الفلسطيني وطغيان الصراع الثنائي الفصائلي على السلطة على أي شيء آخر، ما جعل الوحدة الجاري البحث عنها أقرب إلى مصالحة عشائرية قائمة على المصالح والمكاسب الفئوية والفردية.
كما عرضت العوامل التي تدفع نحو الوحدة بالرغم من الصعوبة البالغة، ومنها وصول طرفي الانقسام والكل الفلسطيني والقضية إلى مأزق عميق، يهددها بالتصفية أو الإغلاق حتى إشعار آخر، فخيار أوسلو أوصلنا إلى الكارثة التي نعيشها، بينما أوصل خيار المقاومة المسلحة كخيار أحادي والمراهنة على مشروع الإخوان المسلمين والمحاور العربية والإقليمية قطاع غزة إلى الوضع الذي يعيشه، إذ أصبح أقصى ما تأمله وتسعى إليه «حماس» رفع الحصار مقابل هدنة طويلة الأمد.
كما أن من العوامل الدافعة نحو الوحدة أن المشروع الصهيوني الاستعماري لم يغلق، ولا يقبل أي تسوية تتضمن اقتسام فلسطين، بل يعمل بسباق مجنون مع الزمن لانتهاز الفرصة التاريخية التي تتيحها له الأوضاع العربية والإقليمية والدولية الراهنة لاستكمال تطبيق إقامة «إسرائيل الكبرى» من خلال ضم مناطق (ج)، وفرض حكم ذاتي مكون من معازل تحت رحمة إسرائيل، يقطنها من يتبقى من الفلسطينيين الذين يتعرضون لعملية تهجير متواصلة تأخذ شكل المجازر والعدوان المدمر، إضافة إلى فرض الحقائق على الأرض التي تجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليا.
وانتهت المداخلة بالتأكيد على أن الوحدة المطلوبة يجب أن تكون في سياق بلورة رؤية شاملة تهدف إلى إحياء القضية الفلسطينية، من خلال إعادة تعريف وتحديد المشروع الوطني، وبلورة إستراتيجية سياسية ونضالية جديدة تربط بين الحياتي والوطني والديمقراطي، وتجسد التعددية والتنوع والمنافسة على أساس القواسم المشتركة، وتنظيم الخلافات ولكن في إطار الوحدة، على أن تترافق مع إعادة بناء مؤسسات المنظمة على أسس وطنية وديمقراطية توافقية، ومشاركة حقيقية، ووضع السلطة في مكانها الطبيعي، بما في ذلك علاقتها بالمنظمة والبرنامج الوطني لتصبح في خدمته وليس عبئا عليه.
إذا حدث ذلك، وسيحدث عاجلا أم آجلا، فستعود الروح الفلسطينية، وسيحرك الأمل القادم الثورة الكامنة دوما في الشعب الفلسطيني كما تدل 18 ثورة وانتفاضة وهبة منذ نشوء ما سميت القضية الفلسطينية وحتى الآن.