بعد التقدم الذي حدث ميدانياً لصالح جيش النظام السوري، بعد التدخل العسكري الروسي، في الحرب الدائرة داخل سورية منذ أكثر من أربعة أعوام، ارتفعت معنويات قوات نظام بشار الأسد لدرجة أنها باتت تفكر في «حسم» الحرب، وذلك بإعادة السيطرة على العاصمة الاقتصادية، أو المدينة الثانية بعد العاصمة دمشق أو عاصمة الشمال السوري، حلب، وذلك يعني في حال تحققه أن النظام سيصطاد عدة عصافير بحجر واحد، منها : أولا _ أن ذلك يسقط احد خيارات الحل بعد انتهاء تلك الحرب الضروس، ونعني به خيار تقسيم البلاد على أساس طائفي، وثانيا _ عدم خروج بشار الأسد شخصيا من معادلة الحل السياسي، ثم ثالثا _ أن يفرض النظام رؤيته للحل، بعد أن يكون قد تخلص من معظم قوات المعارضة التي تقاتله، والتي _ بعد حلب _ سيكون من الصعب عليها الاستمرار في القتال، إلا وفق إستراتيجية حرب العصابات، والتسلل من أراضي الغير.
لكن ذلك يعني بانه ليس فقط الشرائح الاجتماعية والقوى والأحزاب التي انخرطت في صفوف المعارضة السياسية والمسلحة لنظام بشار الأسد، قد هزمت وحسب، ولكن أيضا الدول الإقليمية ودول الغرب العظمى بما فيها الولايات المتحدة نفسها، والتي دعمت وساندت القوى المعارضة للنظام بأهداف معلنة، منها إسقاطه، وفتح البلاد أمام إقامة نظام ديمقراطي تعددي، لذا ورغم أن نظام بشار الأسد يعتقد بأنه يمكنه خلال الأشهر الثلاثة القادمة، حتى تشرين ثاني القادم، أن يستفيد من انشغال واشنطن بالانتخابات الرئاسية لحسم الحرب، إلا أن ذلك يبدو _واقعيا_ أمرا بعيد المنال !
ذلك انه ليست الولايات المتحدة والغرب فقط هم من يدافعون عن مصالحهم في سورية، بل أيضا هناك دول إقليمية أخرى ذات أهمية وتأثير، لا نبالغ لو قلنا بأنه قد يكون أكثر من تأثير واشنطن، فهناك تركيا والدول العربية من الخليج للأردن، كذلك هناك أحزاب وقوى عديدة، خاصة تلك التي تنتشر في أوساط السنة العرب، لا يمكنها أن تسلم في حرب يبدو أن احد أهم أبعادها هو البعد الطائفي أن تنهزم مرتين في العراق وسورية معا.
تبدو الأحياء الشرقية لحلب الآن، مع حشد جبهة فتح الشام، النصرة سابقاً، وحلفائها لقواتها من اجل فك الطوق الذي ضربته قوات النظام قبل وقت، كما لو كانت جدار برلين، عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث حاول الاتحاد السوفياتي من جهة ودول الغرب من جهة أخرى الدخول للعاصمة الألمانية لإعلان الانتصار على هتلر، فتقاسمتا المدينة، حيث تحول الجدار إلى فاصل بين معسكرين وعالمين، تحاربا فيما سمي بالحرب الباردة نحو خمسة عقود متواصلة.
من اجل الوقوف عند صورة المدى الدولي والإقليمي للحرب في سورية، لابد ليس فقط من التذكير بطول أمد الحرب التي دخلت منذ أشهر عامها الخامس على التوالي، كذلك إلى حجم الدمار الذي يضاهي عدة تريليونات من الدولارات، وحجم الضحايا الذي وصل إلى نحو نصف مليون إنسان، وعدد المهجرين داخل البلاد وخارجها الذي وصل إلى نحو نصف الشعب السوري، بل أيضا إلى ملاحظة أن عدد المقاتلين الأجانب الذين ينتمون إلى نحو 93 جنسية، قد بلغ حتى نهاية العام 2015 ( 360 ألف مقاتل ) بالتناوب أو التتابع، وفق دراسة أعدها مركز الدراسات الألماني « فيريل «، وهذا يعني بان اكبر تجمع للمقاتلين الأجانب عبر التاريخ قد تجمّع في سورية !
هذه الإشارة المهمة تثير الاهتمام والانتباه، فبعد انتهاء الحرب الباردة، اعتقد العالم بان أمره قد حسم لواشنطن وان قيادة العالم باتت في البيت الأبيض الأميركي، حيث سارع الغرب إلى فتح مجتمعات أوروبا الشرقية تباعا، وحسم الأمر لصالح إسقاط الأنظمة الشمولية، بالحرب في مناطق قاومت الثورات البيضاء والناعمة، ضد الأنظمة الشيوعية السابقة كما حدث في يوغوسلافيا السابقة، حين وصل الأمر للبوسنة والهرسك ومن ثم لإقليم كوسوفو.
ولم يتدخل أحد إلى جانب الصرب في حربهم ضد حلف الناتو، وفي الحلقة التالية بعد حلقة شرق أوروبا، نقصد الشرق الأوسط، لم يقف احد إلى جانب صدام حسين وهو يواجه حربين أميركيتين / غربيتين، كذلك تركت أفغانستان وحدها لتحتل من قبل القوات الأميركية، وتكرر الأمر ذاته في ليبيا قبل اقل قليلا من خمسة أعوام.
هذا الحجم من التدخل الأجنبي في سورية يكشف عن عدد من الحقائق، منها، أن الوعي «الأممي» أو حتى العولمي قد تزايد بين البشر، فلم تعد الحدود أو المشاعر القومية هي الفيصل، بل صارت الانتماءات العقيدية أو العقائدية هامة لدرجة أن يصطف البشر على أساسها، إلى جانب الانتماءات الطائفية والعرقية والإثنية، كذلك باتت المصالح الاقتصادية وتحقيق الأرباح المالية هدفا ليس للدول والجماعات وحسب بل كذلك للأفراد.
كذلك يكشف عن أن قيادة الولايات المتحدة للعالم باتت شيئا فشيئا تجد من يقف في وجهها، ويبدأ في إعادة ترتيب العالم على أساس آخر غير الأساس أحادي القطب والاستقطاب، ويكشف كذلك عن أن الكثير من الناس الذين يرغبون في إسقاط أنظمة حكم الفرد، ليس بالضرورة أن يدينوا بالولاء لواشنطن، أو أن يسعوا إلى البديل الديمقراطي الغربي .
أما ما يدفعنا للقول بان الحرب حول حلب ستطول، هو أن وجود الجماعات المتطرفة في حلب يعني بأنهم على مقربة من مسلمي روسيا، وعودة النظام لها يعني قطع الطريق على واشنطن التي تسعى لحكم ذاتي كردي في شمال غرب سورية، كذلك يعني تعزيز قوات الكرد المناوئة لتركيا، بدعم النظام السوري، هذا التشابك والتداخل يعني بان سنوات من الفوضى قادمة، وتعني أن حقبة من إرهاصات عالم جديد، يتجاوز صورته التي جاء عليها بعد الحرب الباردة قد بدأت.