وقعت في تونس، قبل أيام، حادثة استأثرت باهتمام العاملين في الحقل الثقافي، والمُعلّقين على الشأن العام. ففي مقطع الفيديو المرفوع على اليوتيوب رأينا أشخاصاً غاضبين يُطلقون هتافات معادية لمؤتمر ومؤتمرين يجلسون على مقاعدهم، ويراقبونهم صامتين.
شتم الغاضبون "المفكر العربي"، وهتفوا "لا أميركا، لا قطر، شعب تونس عربي حُر".
ورد المشتومون على الشاتمين، في اليوم التالي، فاتهموهم بالبلطجة، وخدمة النظام السوري.
وإذا وضعنا مواقف الشاتمين والمشتومين جانباً، أود التذكير بحقيقة أنني كنتُ، دائماً، مفتوناً بما سميته الظاهرة القطرية، وكتبتُ في أكثر من مناسبة مُطالباً بإنشاء قسم للدراسات القطرية في الأكاديميا العربية والغربية، انطلاقاً من فرضية أنها تُمثل مدخلاً لفهم حقيقة العالم العربي في ألفية وقرن جديدين.
فلا معنى لكل كلام عن العلاقة بين العمل والثروة في عالم تعولم، وبين الثروة والأخلاق، وبين الميغالومانيا والسياسة، أو حتى معنى الكوميديا السوداء في تراجيديا عربية تكاد تكون إغريقية تماماً، دون العثور على وسيلة إيضاح مناسبة.
وفي أكثر من مناسبة استعنتُ بتحليل أورتيغا غاسيت في ثلاثينيات القرن الماضي لمرض يهدد أوروبا والعالم، وتتجلى ملامحه الرئيسة في حركات شمولية، وأيديولوجيات قومية وعنصرية متطرفة.
ومن سوء حظ أوروبا، والعالم، أن الحرب العالمية الثانية كانت الدليل الدامي والبرهان المُفزع على فرضية بسيطة مفادها أن الكارثة تصبح ممكنة إذا اعتقد الناس أن كل شيء ممكن ومُباح.
كانت "الجماهير"، التي أنجبها التصنيع، والتمركز الحضري، والميل الدستوري والتشريعي للمساواة، والفضاء العام (الفني والسياسي والاجتماعي) في القرن التاسع عشر، هي "الناس" في ذهن غاسيت. وهي فكرة مُحافظة ورجعية تماماً، ومع ذلك لا يمكن الاستغناء عنها في كل تحليل محتمل للشعبوية والفاشية، وأيديولوجيات الخلاص القومي والديني الانتحارية. فالحكّام وأسياد الدولة، وحلفاؤهم في المصارف، والسوق، وفي حقول السياسة والثقافة والدين، يُقنّعون مصالحهم الواقعية، والأنانية، والضيّقة، بأقنعة مُضللة، وذات قابلية مُدهشة للتجريد: الشعب، الأمة، العقيدة، الزعيم، والقدر المتجلي..الخ.
في العالم العربي، اليوم، "ناس" من الطراز نفسه. ولا يتسع المجال، هنا، للخوض في ظروف نشأة "الجماهير" في هذا الجزء من العالم، بل ثمة ما يستدعي التفكير في فرضية أن ما صدق على جانب كبير من جماهير الأوروبيين، عشيّة الحرب العالمية الثانية، صدق ويصدق على جانب كبير من الجماهير هنا، وأن الحكّام وأسياد الدولة العرب، وحلفاؤهم في المصارف، والسوق، وفي حقول السياسة والثقافة والدين، يُقنّعون مصالحهم الواقعية، والأنانية، والضيّقة، بأقنعة مُضللة، وذات قابلية مُدهشة للتجريد من الطراز نفسه، وكلمة السر هنا، كما كانت هناك: كل شيء ممكن ومُباح.
ولعل في هذا ما يعيدنا إلى ظاهرة لا تقبل التفسير، بأدوات العلم الاجتماعي والسياسي والنفسي (إذا شئت) خارج، أو في معزل عن، عالم يبدو وكأن كل شيء فيه أصبح ممكناً ومُباحاً.
وحتى مع افتراض حسن النوايا، فلا يمكن لأحد، في الأزمنة الحديثة، مثلاً، استعادة دور المدينة/الدولة في مطلع عصر النهضة الأوروبية، وتكرار تجربة آل مديتشي في جمهورية فلورنسا.
ففي وهم التماهي مع، أو إعادة إنتاج، هذه التجربة التاريخية أو تلك ما يشي بوهم أكبر مفاده أن كل شيء في التاريخ ممكن ومُباح.
على أية حال، هذه المرافعة من طراز الخمسة نجوم، وبلا قيمة تُذكر إلا في علم النفس السياسي.
والواقع أننا لن نتمكن من القبض على معنى الظاهرة المعنية دون وضعها في سياق الليبرالية الجديدة الثقافية والاقتصادية والسياسية، في عالم تعولم بعد نهاية الحرب الباردة، واستفراد الأميركيين بالجلوس على قمّة العالم لبعض الوقت.
حسم انهيار جدار برلين الحرب الباردة في مسرح العمليات الأوروبي، وحسمتها حرب تحرير الكويت على يد التحالف العربي ـ الأميركي في مسرح عمليات الشرق الأوسط. والنتيجة في الحالتين:
المال هو العجل الذهبي المعبود، وكل شيء يمكن أن يكون ممكناً ومباحاً، إذا كان في رصيدك ما يكفي من المال، وإذا استثمرت في، وراهنت على، "الجماهير". في الغرب: بالسلعة والتسليع، وفنون السوق والتسويق، والقيم الأميركية، وفي العالم العربي: بكل ما سبق، ولكن وراء قناع الإسلام السياسي كبديل للقيم الأميركية.
وفي سياق كهذا يمكن أن تكون ديمقراطياً ومُستبداً ورجعياً وتقدمياً ومتآمراً ومناضلاً قومياً في آن.
وهذا ما لا ندركه إلا إذا نزلنا من المُتعالي والمُتسامي (sublime) إلى الأرضي والدنيوي (mundane) (الذي يسم البدن).
ويكفي، هنا، مثل واحد. ففي معرض التعليق على فضيحة أوراق بنما، كتب أكاديمي مُحترم، يُدرّس في جامعة غربية، ويكتب بالإنكليزية والعربية، تعليقاً، في منصّة إعلامية تمولها قطر، كرّس ثلاثة أرباعه للنيل من جمال مبارك، ابن الرئيس المصري السابق، الذي نهب هو وأبوه ثروة مصر. لا بأس. ولم لا؟ ولكنه تجاهل حقيقة أن الحاكم السابق لقطر ورئيس وزرائه السابق، أيضاً، كانا في قائمة "قادة الدول" المذكورين، اسماً ورسماً، في أوراق بنما.
صاحبنا الأكاديمي لا يخفي تعاطفه مع الإخوان المسلمين، ويُكرّس مقالاته الأسبوعية، للنيل من النظام المصري. وهذا مشروع تماماً، ولكن من غير المشروع، بالمعنى المهني والسياسي والأخلاقي، تجاهل القائمة الرئيسة في أوراق بنما، ونشب الأظافر في بيدق صغير.
قبل أيام نشر المُشرفُ على المنصة نفسها "تأملات" فلسفية متعالية ومتسامية حول معنى السجال السياسي، والتنابذ القيمي.
ألا يشكل تجاهل القائمة الرئيسة، والنيل من بيدق صغير، تنابذا قيمياً في سجال سياسي هابط؟ ألا تُحرّض الظاهرة القطرية على "تأملات" فلسفية في معنى أن تكون الشيء ونقيضه؟ ألا يدل مجرد التسامي على فزع من التمثيل بالملموس على واقع مادي ملموس؟ الدنيوي يسم البدن، بالتأكيد، أما "الفلسفة" فتخلق أجنحةً، وتَجنَحُ، وتُجنّح.