د. عبد القادر فارس
من مذكرات فدائي (12)
عندما جاءتهم الأوامر بتشكيل دورية لاجتياز نهر الأردن " الشريعة " من القاعدة التي كانت تضم نحو ثلاثين فدائيا على مشارف غور الأردن , تسابق الجميع ليكون ضمن تشكيل الدورية التي تقرر أن تكون من خمسة فدائيين , ومن أجل ألا يزعل أحد منهم , قرر آمر القاعدة أن يجري قرعة لاختيار أعضاء الدورية الخمسة .. وقع عليه الاختيار إلى جانب أربعة من رفاقه , بعدها تم توزيع الأدوار بينهم , فإلى جانب قائد الدورية الذي كان خبيرا في المنطقة وكان بحمل مسدسا ورشاش كلاشنكوف وعددا من القنابل اليدوية , بينما الثاني كان متخصصا في الرمي على قاذف الـ ( آر. بي .جى ) , يساعده زميل ثان يحمل رشاش كلاشنكوف وجعبة بها ثلاث قذائف , أما الرفيق الثالث فكان عليه أن يحمل مدفع ( هاون 60) يساعده زميل يحمل قذائف الهاون ورشاش كلاشنكوف , أما الرابع فكان يحمل رشاش ( ديكتريوف ) وجعبة من القنابل اليدوية , وإلى جانب الجعب العسكرية وخزنات الرشاشات , كان كل فرد يحمل زمزمية ماء .. كان الحمل ثقيلا , وعليهم السير لمسافة ما يقارب الخمسة كيلو مترات , عبر منطقة جبلية وحرجية وعرة , حيث يتم قطع هذه المسافة في نحو الساعتين .. انطلق الجميع بعد غروب الشمس , وبعد أن أدوا صلاة المغرب جماعة , وكان هو يحمل مصحفا صغيرا في جيبة الجعبة الصدرية .. وصلوا إلى حافة الشريعة , قام قائد الدورية , وهو أقلهم حملاً , باجتياز النهر ومعه حبل طويل ربطه في إحدى الاشجار الكبيرة , التي جلس باقي أعضاء الدورية تحتها للاختباء من نظر العدو.. كان الجو حارا جدا في شهر أغسطس ( آب اللهاب ) كما يقولون , وقد تم اختيار اليوم الأول من الشهر القمري , حتى يكون الظلام دامسا , ولا يوجد أي ضوء للقمر .. وصل قائد الدورية بسلام إلى الجهة المقابلة داخل الأراضي المحتلة , حيث كان قد تم رصد المنطقة بشكل جيد , بحيث لا يكون وقت مرور دوريات جيش الاحتلال , بعدها أخذ باقي أعضاء الدورية التسلل عبر الامساك بالحبل للوصول للطرف الآخر , تمكن الجميع من الوصول , بعدها قام قائد الدورية بتوزيع الأدوار , هو وقاذف ( الأر. بي . جى ) ومساعده حامل القذائف , عليهم التقدم لبضع مئات من الأمتار , لنصب كمين للدورية الاسرائيلية التي تمشط المنطقة كل أربع ساعات , كان عليهم أن يمروا عبر حقول الألغام بكل حذر , وكان هو خبير في المتفجرات .. كان يعلم كيف يزرع العدو حقول الألغام , فكان يسير بين الألغام بشكل ( رجل غراب ) , بينما كان يقرأ "سورة يس " , ويدعو الله أن يعود شهيدا إذا ما انفجر أحد الألغام به , على ألا يعود معاقا وقد فقد رجلية , أو أحد قدميه , بينما قاذف الهاون ومساعده يبقيان مكانهما عند حافة النهر للإسناد إذا لزم الأمر .. مرّ وقت قدوم الدورية ولما تصل في موعدها , بينما كان عليهم أن يعودوا قبل الفجر , حتى لا يتم كشفهم في ضوء النهار .. مرّ الوقت ثقيلا وارتفعت نسبة القلق بفشل الدورية , وعند حدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل , قرر قائد الدورية العودة .. في طريق العودة تم تغيير مسير الطريق , حتى لا تظهر أثار أقدامهم من أي دورية أخرى , وتبلغ عن تسلل دورية فدائية في المنطقة .. وفي طريق عودتهم شاهدوا ضوءاً في أحد المنازل المتطرفة بإحدى المستوطنات في المنطقة .. وعندما وصلوا تسلل حامل ( الأر. بي .جى ) لاستطلاع ما يوجد في داخل البيت , وصل إلى مقربة من المنزل وسمع صوت صراخ وضوضاء .. تقدم أكثر إلى أن وصل لنافذة المنزل , شاهد عددا من النسوة يساعدن امرأة تصرخ على سرير في إحدى الغرف كانت في حالة ولادة .. عاد إلى قائد الدورية , وأخبره بما شاهد , وقد عقد العزم في قرارة نفسه أن يوجه قذيفة لذلك البيت .. قائد الدورية طلب من الجميع العودة وعدم المساس باي مدني , لأن مهمتهم ضرب الدوريات العسكرية فقط , لأن الاخلاق العسكرية لدى الفدائيين تمنع المساس بالمدنيين , غير أنه تذكر كيف قصف جيش الاحتلال منزلهم في حرب يونيو 1967 , وفقد فيه والدته وشقيقه الرضيع , وخلال العودة قرر تنفيذ ما في رأسه .. وعند المرور بقرب المنزل أطلق قذيفة على النافذة المضيئة في المنزل , فاندلع حريق وصراخ من داخل الغرفة .. سمعت قوات العدو بصوت الانفجار , وحضرت بسرعة للمنطقة , وأخذت بالتمشيط بحثا عن الفدائيين , وهو ما اضطر دورية الفدائيين إلى سلك طريق لا يعرفونها , وعندها وقعوا في حقل للألغام , فانفجر أحد الألغام بمنفذ العملية , بينما تمكن قائد الدورية ومساعده من الإفلات من حقل الألغام والعودة , رفقة الزميلين الآخرين على حافة النهر والعودة سالمين , في حين أعلن عن استشهاد قاذف (الآر. بي . جي) , في حقل الألغام , وما زال جسده ضمن شهداء مقبرة الأرقام في منطقة غور الأردن , والتي تضم رفاة مئات الفدائيين الذين كانوا يتسللون عبر الحدود لتنفيذ العمليات الفدائية ضد جنود الاحتلال.