لا أعرف إن كان المكتوب هنا مقالاً أم أشبه بقصة معتمة وحقيقية في كل الأحوال، تنعكس تفاصيلها على آلاف الفلسطينيين الذين يذوقون آلاماً وويلات في الداخل الفلسطيني وفي دول الشتات، فحال الفلسطيني في عصر التطور والألفية الثالثة بقي كما هو، بل زاد تعقيداً.
أمس القريب هاتفتني والدتي تخبرني عن سوء أحوال الناس في قطاع غزة الذي يعاني حصاراً دولياً ظهرت تجلياته في العام 2006 حين فازت حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية آنذاك، وزاد الطين بلة الانقسام الداخلي الذي أدى إلى ظهور واقع مؤلم انقسامي سلطوي فصائلي مجتمعي حاضر إلى يومنا هذا.
وفي مكالمتها التي زادت عن الساعة، أخبرتني الوالدة عن قضايا كثيرة، عن مأساة الناس بسبب الفقر والعوز وارتفاع معدلات البطالة التي وصلت إلى مستويات رهيبة لا يمكن المرور بها مرور الكرام، وكيف أن في كل منزل شبابا لا عمل لهم سوى القعود في منازلهم.
واستطردت بالدخول أكثر في تفاصيل العائلة وإصابة عمّي العاطل عن العمل منذ مدة بمرض السرطان الخطير الذي استوطن وأكل كامل جسده، بينما تحاول أسرته إسعاده بتزويج ابنه الذي يعمل يومياً دون أن يتمكن من الوصول إلى الحد الأدنى من الأجر العادل وفتح منزل لتكوين عائلة طبيعية.
حدثتني عن الأمراض الكثيرة والجلطات التي تفتك بالصغير والكبير، وفي كلامها نبرات من الحزن والألم على واقعنا الفلسطيني في كل مكان، وحيث إغلاق معبر رفح البري على الحدود الجنوبية مع مصر، الذي حرم آلاف الفلسطينيين من تعليمهم وإقاماتهم في الدول الأخرى، فضلاً عن حقهم في العلاج بالخارج وبالتالي موتهم السريع والبطيء.
هذا الحديث الكئيب لم ينقطع بيننا منذ فترة طويلة، إذ من كل خبر جيد يتعلق بمناسبة أو فرحة، يقابله أخبار مشؤومة كثيرة وتتنوع بين الجانب الصحي والنفسي والمادي، ولسان حال الناس أنهم بدؤوا يتململون من واقعهم المتردي الذي لم ينفرج ويذهب من سواد إلى أسوأ.
في غزة أيضاً، وصلني خبر من زميلة أن عقد زوجها انتهى وأصبح الآن في المنزل، بينما هي تعمل أيضاً على بند العقود المؤقتة في مؤسسة غير حكومية، وتجهل مصيرها الذي قد يحيلها أيضاً إلى ربة منزل دائمة، وفي النهاية لا معيل ولا ما يحزنون.
لنا أن نلاحظ الوضع في قطاع غزة الآن، الحصار قائم ويقلل من حركة البضائع المستوردة، والسيولة النقدية تعاني من «إمساك» بسبب ضعف أداء السلطة الفلسطينية الاقتصادي، بالإضافة إلى وضعها المالي المحزن، الذي جعلها تجدول صرف الرواتب حسب المتوفر من المال.
ما يفاقم الأوضاع في غزة تحديداً، أن الكهرباء تعمل وفق ساعات معينة، وانقطاعها يتجاوز ساعات وصلها، يضاف إلى ذلك أن الدول الأوروبية التي كانت تقدم دعماً تشغيلياً لآلاف المواطنين عنوانه مؤسسات المجتمع المدني، بعض هذه الدول بدأت تراجع سياساتها ووضعها الاقتصادي الصعب الذي جعلها تعيد النظر في تلك المؤسسات ووقفها عن العمل.
لدينا جيش من العاطلين عن العمل قوامه حوالي 195 ألف عاطل في غزة وحدها، وأغلب هؤلاء من الشباب الذين لم يحصلوا على فرص جيدة في الحياة بسبب غيابها، والأيام تلوك بهم دون أي أفق لمستقبل مشرق، ولدينا حالة من التشاؤم والإحباط ربما تصيب ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني إن لم يكن كله.
الحياة الاجتماعية في غزة سوادها الأعظم تصب في الأتراح والتعازي وزيارة المرضى، وبالعافية يتمكن الناس من تمشية أمورهم المعيشية في ظل انقسام همجي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأنه انقسام أخذ الغث والسمين وأصاب الفلسطيني بنحس ولعنة مصطنعة.
أن تستقبل أي مكالمة من غزة، فهذا يعني أن عليك مسبقاً التكيف مع طبيعتها ومضمونها، لأن ما يجري في هذه المنطقة لا يبشر بخير، خصوصاً وأن ملف المصالحة في أحسن أحواله تجده يتقدم خطوةً إلى الأمام ويتراجع خطوات كثيرة إلى الوراء.
ثم إن غزة لا تعاني وحدها من هذا الضغط الهائل عليها، إنما هناك هموم كثيرة في عموم الأرض الفلسطينية، فإما لعنة الانقسام حاضرة أو لعنة الاحتلال الإسرائيلي الذي يتطاول على المواطنين وممتلكاتهم وأراضيهم بدون رقيب أو حسيب.
النتيجة أن الفلسطيني لا يزال يعيش في نكبة متجددة والمكروه يرافقه في حله وترحاله، حتى أن هذا المكروه أصابه في مخيمات الشتات، في العراق سابقاً حيث تعرض للقتل والذبح والهروب إلى سورية، ومن ثم يعاني الآن أبشع أنواع التعذيب والقتل والتدمير الممنهج في مخيمي اليرموك وفلسطين حيث عاش وتربى هناك وكوّن أسرة تنتظر الوطن ولو بعد حين.
أمام كل هذه المآسي والويلات، نحتاج بصراحة إلى التفكر والتعقل من أجل حماية الشعب الفلسطيني وصون حقوقه والتخفيف من معانياته قدر المستطاع، لأن كثرة الضغط تولد حقداً كبيراً وكراهية لا يمكن استئصالها لدى الفلسطينيين الذين هضمت حقوقهم وخرجوا من دائرة الاهتمام الفلسطيني الرسمي والفصائلي.
إذا كانت الوحدة صعبة علينا ونحن في أمس الحاجة إليها، فينبغي على الأقل إعطاء الأولوية للإنسان الفلسطيني والاستثمار فيه باعتباره أساس التنمية الشمولية، وهذا يستدعي على السرعة إيجاد استراتيجية لتمكين المواطن والتخفيف عن همومه المعيشية.
استراتيجية لتقليل نسب البطالة خصوصاً بين الشباب وفرملة توجه المواطنين إلى مقاصد أوروبية وغيرها للجوء هناك، والسؤال عن المواطن والإحساس به وربطه بصنع القرار الداخلي، وحماية ومساعدة اللاجئين الفلسطينيين في المناطق المنكوبة مثل مخيم اليرموك سواء بالقرارات الدولية وحقوق الإنسان والصليب الأحمر والأخضر... أو بقوة سلاح الفصائل الفلسطينية المتواجدة هناك.
بالله عليكم كيف يمكن لمواطن مقهور ويلاحظ تهميش و»إخصاء» المؤسسات الرسمية له، ولا يتمتع بمؤهلات تمكنه من العيش في الحدود الدنيا لحياة شبه طبيعية، و»جيبته» فارغة في أغلب الوقت، كيف يستطيع هذا المواطن مقاومة الصبر ومقاومة الاحتلال؟ إذا كانت أبسط حقوقه غير حاضرة، فهل سيتمكن من التفرغ للمقاومة الفلسطينية ورفع الشعارات الكبيرة التي تطالب بزوال الاحتلال.
«زهّقتَكْ إمِّي من حَكِينا.. شُو أخباركم انتم»، أمي تنهي حديثها معي في السؤال عن أحوالنا ونحن في الخارج، فهل سيكون الحال جيداً بعد الذي سمعته منها وما أقرؤه وأشاهده يومياً على صفحات الجرائد والتلفزيون؟
أمس القريب هاتفتني والدتي تخبرني عن سوء أحوال الناس في قطاع غزة الذي يعاني حصاراً دولياً ظهرت تجلياته في العام 2006 حين فازت حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية آنذاك، وزاد الطين بلة الانقسام الداخلي الذي أدى إلى ظهور واقع مؤلم انقسامي سلطوي فصائلي مجتمعي حاضر إلى يومنا هذا.
وفي مكالمتها التي زادت عن الساعة، أخبرتني الوالدة عن قضايا كثيرة، عن مأساة الناس بسبب الفقر والعوز وارتفاع معدلات البطالة التي وصلت إلى مستويات رهيبة لا يمكن المرور بها مرور الكرام، وكيف أن في كل منزل شبابا لا عمل لهم سوى القعود في منازلهم.
واستطردت بالدخول أكثر في تفاصيل العائلة وإصابة عمّي العاطل عن العمل منذ مدة بمرض السرطان الخطير الذي استوطن وأكل كامل جسده، بينما تحاول أسرته إسعاده بتزويج ابنه الذي يعمل يومياً دون أن يتمكن من الوصول إلى الحد الأدنى من الأجر العادل وفتح منزل لتكوين عائلة طبيعية.
حدثتني عن الأمراض الكثيرة والجلطات التي تفتك بالصغير والكبير، وفي كلامها نبرات من الحزن والألم على واقعنا الفلسطيني في كل مكان، وحيث إغلاق معبر رفح البري على الحدود الجنوبية مع مصر، الذي حرم آلاف الفلسطينيين من تعليمهم وإقاماتهم في الدول الأخرى، فضلاً عن حقهم في العلاج بالخارج وبالتالي موتهم السريع والبطيء.
هذا الحديث الكئيب لم ينقطع بيننا منذ فترة طويلة، إذ من كل خبر جيد يتعلق بمناسبة أو فرحة، يقابله أخبار مشؤومة كثيرة وتتنوع بين الجانب الصحي والنفسي والمادي، ولسان حال الناس أنهم بدؤوا يتململون من واقعهم المتردي الذي لم ينفرج ويذهب من سواد إلى أسوأ.
في غزة أيضاً، وصلني خبر من زميلة أن عقد زوجها انتهى وأصبح الآن في المنزل، بينما هي تعمل أيضاً على بند العقود المؤقتة في مؤسسة غير حكومية، وتجهل مصيرها الذي قد يحيلها أيضاً إلى ربة منزل دائمة، وفي النهاية لا معيل ولا ما يحزنون.
لنا أن نلاحظ الوضع في قطاع غزة الآن، الحصار قائم ويقلل من حركة البضائع المستوردة، والسيولة النقدية تعاني من «إمساك» بسبب ضعف أداء السلطة الفلسطينية الاقتصادي، بالإضافة إلى وضعها المالي المحزن، الذي جعلها تجدول صرف الرواتب حسب المتوفر من المال.
ما يفاقم الأوضاع في غزة تحديداً، أن الكهرباء تعمل وفق ساعات معينة، وانقطاعها يتجاوز ساعات وصلها، يضاف إلى ذلك أن الدول الأوروبية التي كانت تقدم دعماً تشغيلياً لآلاف المواطنين عنوانه مؤسسات المجتمع المدني، بعض هذه الدول بدأت تراجع سياساتها ووضعها الاقتصادي الصعب الذي جعلها تعيد النظر في تلك المؤسسات ووقفها عن العمل.
لدينا جيش من العاطلين عن العمل قوامه حوالي 195 ألف عاطل في غزة وحدها، وأغلب هؤلاء من الشباب الذين لم يحصلوا على فرص جيدة في الحياة بسبب غيابها، والأيام تلوك بهم دون أي أفق لمستقبل مشرق، ولدينا حالة من التشاؤم والإحباط ربما تصيب ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني إن لم يكن كله.
الحياة الاجتماعية في غزة سوادها الأعظم تصب في الأتراح والتعازي وزيارة المرضى، وبالعافية يتمكن الناس من تمشية أمورهم المعيشية في ظل انقسام همجي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأنه انقسام أخذ الغث والسمين وأصاب الفلسطيني بنحس ولعنة مصطنعة.
أن تستقبل أي مكالمة من غزة، فهذا يعني أن عليك مسبقاً التكيف مع طبيعتها ومضمونها، لأن ما يجري في هذه المنطقة لا يبشر بخير، خصوصاً وأن ملف المصالحة في أحسن أحواله تجده يتقدم خطوةً إلى الأمام ويتراجع خطوات كثيرة إلى الوراء.
ثم إن غزة لا تعاني وحدها من هذا الضغط الهائل عليها، إنما هناك هموم كثيرة في عموم الأرض الفلسطينية، فإما لعنة الانقسام حاضرة أو لعنة الاحتلال الإسرائيلي الذي يتطاول على المواطنين وممتلكاتهم وأراضيهم بدون رقيب أو حسيب.
النتيجة أن الفلسطيني لا يزال يعيش في نكبة متجددة والمكروه يرافقه في حله وترحاله، حتى أن هذا المكروه أصابه في مخيمات الشتات، في العراق سابقاً حيث تعرض للقتل والذبح والهروب إلى سورية، ومن ثم يعاني الآن أبشع أنواع التعذيب والقتل والتدمير الممنهج في مخيمي اليرموك وفلسطين حيث عاش وتربى هناك وكوّن أسرة تنتظر الوطن ولو بعد حين.
أمام كل هذه المآسي والويلات، نحتاج بصراحة إلى التفكر والتعقل من أجل حماية الشعب الفلسطيني وصون حقوقه والتخفيف من معانياته قدر المستطاع، لأن كثرة الضغط تولد حقداً كبيراً وكراهية لا يمكن استئصالها لدى الفلسطينيين الذين هضمت حقوقهم وخرجوا من دائرة الاهتمام الفلسطيني الرسمي والفصائلي.
إذا كانت الوحدة صعبة علينا ونحن في أمس الحاجة إليها، فينبغي على الأقل إعطاء الأولوية للإنسان الفلسطيني والاستثمار فيه باعتباره أساس التنمية الشمولية، وهذا يستدعي على السرعة إيجاد استراتيجية لتمكين المواطن والتخفيف عن همومه المعيشية.
استراتيجية لتقليل نسب البطالة خصوصاً بين الشباب وفرملة توجه المواطنين إلى مقاصد أوروبية وغيرها للجوء هناك، والسؤال عن المواطن والإحساس به وربطه بصنع القرار الداخلي، وحماية ومساعدة اللاجئين الفلسطينيين في المناطق المنكوبة مثل مخيم اليرموك سواء بالقرارات الدولية وحقوق الإنسان والصليب الأحمر والأخضر... أو بقوة سلاح الفصائل الفلسطينية المتواجدة هناك.
بالله عليكم كيف يمكن لمواطن مقهور ويلاحظ تهميش و»إخصاء» المؤسسات الرسمية له، ولا يتمتع بمؤهلات تمكنه من العيش في الحدود الدنيا لحياة شبه طبيعية، و»جيبته» فارغة في أغلب الوقت، كيف يستطيع هذا المواطن مقاومة الصبر ومقاومة الاحتلال؟ إذا كانت أبسط حقوقه غير حاضرة، فهل سيتمكن من التفرغ للمقاومة الفلسطينية ورفع الشعارات الكبيرة التي تطالب بزوال الاحتلال.
«زهّقتَكْ إمِّي من حَكِينا.. شُو أخباركم انتم»، أمي تنهي حديثها معي في السؤال عن أحوالنا ونحن في الخارج، فهل سيكون الحال جيداً بعد الذي سمعته منها وما أقرؤه وأشاهده يومياً على صفحات الجرائد والتلفزيون؟