«ما هذا، وما هكذا؟ من الخطأ المطلق التركيز على الصمود المطلق». هذه عبارة بخط قلم ياسر عرفات على طرف جريدة «فلسطين الثورة» اليومية، تعقيباً على مانشيت الخبر الرئيسي فيها: «تل الزعتر لن يسقط»!
بين سقوط مخيم تل الزعتر، شرقي بيروت في 14/8/1976 وإبادة مخيم النبطية، قرب مدينة النبطية جنوب لبنان في 16/5/1974 سنتان وثلاثة شهور. أين الدراما في مصير مخيمين فلسطينيين؟
منذ العام 1969 بدأت أولى الغارات الجوية الإسرائيلية على مخيم النبطية، لكن رداً على عملية فدائية، أُبيدت مباني المخيم، عن بكرةِ أبيها، ومُحي مخيم نموذجي بنته «الأونروا» في العام 1956. جميع مخيمات لبنان بنيت، في أضيق نطاق، ونمت عشوائياً، باستثناء مخيم النبطية النموذجي.
ضابط فدائي في مخيم النبطية يعرف العبرية، وسمع تهديداً في إذاعة إسرائيلية، فقام بإجلاء سكان المخيم، وبعضهم ذهب إلى مخيم تل الزعتر.
يقول صديق فلسطيني في رام الله، إنه زار أرض مخيم تل الزعتر، فوجد بين خرائبه مبنى واحداً نجا من القذائف وجرّافات الهدم اللاحقة.
في تدمير جوي لمخيم النبطية نجا سكانه، لكن كم من سكان مخيم تل الزعتر لجؤوا إليه بعد تدمير مخيم النبطية لاقى مصرعه من بين 3000 ضحية لاقوا حتفهم بين بدء حصار تل الزعتر، أواخر حزيران 1976، وسقوطه في 14 آب 1976؟
واحد من هؤلاء الضحايا والشهداء كان السوري طلال رحمة، زميلنا في «فلسطين الثورة» وصديق العمر، الذي تطوّع، هو وزميلنا الفلسطيني، هاني الزعبي، لاختراق الحصار وكتابة تحقيق من داخل المخيم المحاصر، لكنه لاقى مصرعه على أطراف المخيم بشظية قذيفة. لن أنسى دم طلال على ملابس هاني الزغبي.
ارتبط عندي سقوط أوّل مخيم فلسطيني بسقوط أوّل الصحافيين العاملين في «فلسطين الثورة»، وأيضاً بمصير ثلاثة من قادة صمود تل الزعتر، الذين شقوا الحصار، عَبر تلال المونتي ـ فيردي، ووصلوا بيروت الغربية بسلام.
بعد شهور من سقوط تل الزعتر كتب درويش قصيدته «أحمد الزعتر». كم واحدا اسمه «أحمد» كان من ضحايا التل، المدنيين أو الفدائيين؟
لا أنسى مطلقاً واحدا من قادة صمود المخيم، وكان ربع القامة، متين البنيان، أشقر الشعر، وله اسمه الحركي بالتأكيد، لكن بعد شهور من ملحمة المخيم وملحمة القصيدة الدرويشية، لاقى مصرعه مع زميليه في كمين إسرائيلي ليلي ـ بحري، على الطريق من الدامور إلى صيدا.
هل كان اسمه الحقيقي «أحمد»؟ هل كان واحداً من مقاتلي مخيم النبطية، الذين نجوا بعد إخلاء المخيم من سكانه؟
بين حصار الزعتر وسقوطه، كانت المدفعية الفلسطينية تقدّم دعماً نارياً يعيق قوات الحصار عن اجتياحه، لكن لم يعد مجدياً تقدّمها بالتنسيق مع القوات السورية. ربما لهذا كتب القائد العام عن خطأ التركيز على الصمود المطلق.
رداً على سقوط أوّل مخيم فلسطيني في الحرب الأهلية اللبنانية، الذي كان تطهيراً عرقياً، ورافقته مذابح للمدنيين الخارجين من المخيم، قامت القوات المشتركة، بقيادة أبو موسى، باجتياح بلدة الدامور الساحلية، وتطهيرها من القوات اللبنانية، وبشكلٍ خاص من ميليشيا «نمور الأحرار» بقيادة الرئيس اللبناني السابق، كميل شمعون، وكان له قصر في البلدة، وكتب إلى أبو عمّار: إن كنت قائداً فمطلبي الوحيد هو استعادة لوحة زيتية لزوجتي الراحلة «زلفا» من هذا النهب والتخريب. بالفعل تمكّن عرفات من ذلك، واستعادة ما أمكن من منهوبات قصره.
بيوت الدامور الحجرية المهجّرة ـ المدمّرة لا تقارن ببيوت مخيم تل الزعتر المدمّر، وللدامور حقول زراعية خصيبة، وحقول من الموز بشكلٍ خاص، فإذا قالوا في فلسطين «ريحاوي يا موز» يقولون في لبنان «داموري يا موز»؟
صحيح أنه مع سيطرة القوات المشتركة على بلدة «الدامور» تم تحرير طريق بيروت ـ صيدا لحركة الناس والمقاتلين في القوات المشتركة الفلسطينية ـ اللبنانية، لكن لاجئي مخيم تل الزعتر رفضوا استثمار حقول الدامور، وحتى تحسين شروط بيوتهم فيه، واكتفوا بإغلاق جزئي للنوافذ الفسيحة بالبلاستيك، تحت شعار: لا نأخذ بيوتاً ليست لنا، كما أخذ الإسرائيليون بيوتنا في الجليل بعد النكبة.
في زيارة للدامور مع زوجتي، لا أنسى طفلة كانت تشدو : إحنا دمّرنا الدامور، وبسؤالها عرفنا أنها من بلدة «الناعمة» الإسلامية المجاورة للدامور، ولعلّ خلع ونهب أبواب البيوت وحديد نوافذها قام به سكان بلدتها، عدا نهب البرادات وأفران الطبخ وما شاكل.
في زيارة أولى للدامور لتفقد أحوال الناجين من مذبحة «تل الزعتر» حصلت الواقعة التالية: شبل مسلح صرخ في أبو عمّار: أنت المسؤول عمّا حلّ بنا. أم الشبل فركت إذنه وصفعته، فقال أبو عمّار: اتركيه.. وتعال إليّ يا شبل!
الشبل الحانق مشى بهدوء، ولما اقترب من أبو عمّار، أخذ ينشج بالبكاء، فاحتضنه القائد العام، وراح يواسيه.
***
ما كان مخيماً نموذجياً قرب النبطية بقي خرائب، وما كان مخيماً في تل الزعتر يعمل شبابه في المصانع اللبنانية يبقى خرائب.. لكن أهل الدامور عادوا إلى مدينتهم وعمّروها من جديد، أما إعادة إعمار مخيم نهر البارد، فهي تسير ببطء شديد كما إعادة إعمار مخيمات وبيوت غزة.
مخيمات لبنان المكتظة زاد اكتظاظها بلجوء سكان المخيمات الفلسطينية في سورية، وخاصة مخيم اليرموك، الذي كان عاصمة اللجوء الفلسطيني.
شيء ما، في حروب حلب يذكّر بما كان بين بيروت الشرقية والغربية، لكن الحروب السورية ذهبت بعيداً عن الحرب الأهلية اللبنانية.
***
من قصيدة «أحمد الزعتر» :
«تل الزعتر الخيمة
«وأنا البلاد وقد أتت
«وتقمّصتني
«وأنا الذهاب المستمر إلى البلاد
«وجدت نفسي ملء نفسي
«فاذهب عميقاً في دمي
«واذهب عميقاً في الطحين
«لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين».