تزعم الرواية التوراتية أنه بعد موت سليمان انقسمت المملكة الموحدة إلى دويلتين (يهودا والسامرة).. والحقيقة التاريخية التي يذكرها "فراس السواح" أن دولة السامرة (إسرائيل) قامت لأول مرة في التاريخ عام 880 ق.م، أما دولة يهوذا فقد قامت 735 ق.م، أي بعد الزمن المفترض لقيام المملكة الموحدة بنحو قرنين، حين نضجت الظروف الذاتية اللازمة لقيامهما. وهاتان الدويلتان (إسرائيل ويهوذا) كانتا دويلتين فلسطينيتين محليتين، نشأتا في البيئة الكنعانية، وجميع آثارهما وفنونهما وآلهتهما ومخلفاتهما إنما تعكس نمطا كنعانياً، وطوال عمر هاتين الدولتين لم يكن أي أثر لأي معتقد توراتي، وهاتان الدويلتان لا يربط بينهما إلا أوهى الروابط، وقد عاصرتا بعضهما البعض لفترة قصيرة جدا من الزمن، إذ قامت يهوذا على أنقاض إسرائيل، ولم يسبق وجودهما أي مملكة موحدة، ولا علاقة لهما بإسرائيل التوراتية، وكما نشأتا تباعا فقد دُمرتا تباعا أيضاً، واختلفت مصائرهما التاريخية أيما اختلاف.
وإمعانا في التزوير، فقد دمَجَ محررو التوراة بين إبراهيم الذي ظهر للوجود في عصر البرونز الوسيط، وبين موسى الذي ظهر قبيل عصر الحديد الأول، أي بعده بنحو خمسة قرون، وبين مملكة إسرائيل التي أقيمت في العصر الحديدي الثاني، أي بعد موسى بنحو أربعة قرون، فضلا عن هذا الخلط التاريخي هنالك تجاهل تام لكافة التغيرات والتحولات العميقة والجذرية التي ألمت بالمنطقة وبنيتها السكانية وتركيبتها الإثنية، وللتغطية على هذا الخلل عمدوا إلى الخلط بين المصطلحات والمسميات التي لكل واحد منها معنى ومدلول مختلف ومستقل ويعبر عن مرحلة تاريخية معينة، أو عن قوم معينين، وهكذا صارت تلك المصطلحات تعطي نفس الدلالة وتسـتخدم للتعريف على نفـس الجماعة، وهذه المصطلحـات هي (العبرانيون، بنو إسرائيل، الموسويون، اليهود).
ويؤكد "السواح" أن اليهودية التوراتية نشأت في العهد الفارسي في بابل، واستُكملت في القدس على يد كهنة أورشليم، الذين كتبوا التوراة البابلية، وهذه الديانة لا تمت بصلة بديانة التوحيد التي جاء بها النبي موسى قبل هذا التاريخ بنحو ثمانية قرون من الزمان، أما المجتمع اليهودي الذي نشأ في القدس؛ فكان مكونا من العائدين من بابل، إلى جانب شعوب أخرى فقدت ارتباطها بأوطانها الأصلية، وقبائل أخرى كانت تبحث عن حظوظ جديدة في المناطق التي تخطط الإمبراطورية الفارسية لإعادة تعميرها، ومهما كان الشعب الذي أُعيد إلى فلسطين قسراً أو طوعاً، فهم بالتأكيد لم يكونوا إسرائيليين (بالمعنى التوراتي) لا إثنياً ولا روحياً، ورغم ذلك أصبح الفُرس يعتبرونهم إسرائيليين، وأصبحوا هم يعتبرون أنفسهم سكان إسرائيل المفقودة منذ زمن والعائدين إلى أرض إسرائيل من منفى مرير، بعد أن خلصهم سيدهم "كورش"، وهكذا بمساعدة الفرس تم تحديد الهدف: إعادة ديانة يهوه القديمة. وهذا الخليط البشري وجد نفسه أمام خيارين: إما القبول بشريعة الملك الفارسي والتكيف مع القوانين الجديدة، أو مواجهة أقصى العقوبات – كما ورد في رسالة "داريوس" إلى أهل أورشليم – ولا شك بأن المجتمع الأورشليمي الجديد قد أخذ بالخيار الأول.
هذه الحقائق ذكرها مؤرخون يهود وإسرائيليون، منهم: ميخائيل هرسيغور، شلومو ساند، إسرائيل شاحاك، إسرائيل فنكلشتاين، موريس سترون، سيغمون فرويد..
المؤرخ الإسرائيلي "شلومو ساند" في كتابه "اختراع الشعب اليهودي" يقول: "تقوم فكرة ما يسمى بِـ "الشتات اليهودي"، على أسطورة طرد الرومان لليهود سنة 70 م، بعد تدمير الهيكل.. فمن ناحية، فإن طرد "الشعب اليهودي" من وطنه لم يحدث أبداً، ومن ناحية ثانية فإن رواية الطرد والتشريد كانت ضرورية من أجل بناء ذاكرة للمدى البعيد، وُضع فيها شعب عرقي "متخيَّل" ومنفي، باعتباره استمراراً مباشراً للشعب التوراتي القديم... في حين أن اليهود لم يُطردوا أساساً من فلسطين، بل خرجوا منها طوعاً، ولم يعودوا إليها بإرادتهم الحرة". ودلالة على وهن العلاقة بين اليهود وفلسطين فإن موضوع الهجرة إلى فلسطين بقي ولقرون عديدة خارج نطاق التفكير الجماعي لليهود ومقتصراً على المستوى الفردي فقط، على الرغم من أنها ظلت مفتوحة للحجيج ومتاحة للراغبين من اليهود للإقامة فيها طوال عهـد الدولة الإسلامية؛ إلا أن عدد اليهود المقيمين فيها عام 1880 بلغ 25 ألفاً فقط مقابل ملايين اليهود في العالم.
ويؤكد "ساند" على أن مقولة وحدة الأصل مجرد أسطورة، فالأغلبية الكبرى من يهود العالم في الوقت الحاضر، هم من أصل أوروبي شرقي (أي من العرق الآري)، وتحديداً من أصل خزري، وهذا يعني أن أجدادهم لم يعبروا نهر الأردن، بل عاشوا على ضفاف نهر الفولغا، ولم تطأ أقدامهم أرض كنعان، بل أرض القوقاز، وهم من حيث التركيب الوراثي يعودون إلى قبائل الهون والآوجور، وبالتالي لا صلة لهم بذرية إبراهيم، وبالتالي فإن تعبير معاداة السامية سيكون خالياً من معناه.. وقضية أن أصول أغلبية اليهود تعود لقبائل الخزر تعني أن المزاعم الدينية والتاريخية لليهود في فلسطين هي أكبر خدعة في التاريخ.
وتزعم الصهيونية أن اليهود يمثلون قومية تنتمي لأصل عرقي واحد، حافظت على نقائه طوال القرون الماضية، حتى أن بعضهم تحدث عن جينات يهودية.. وهذا الادعاء ما هو إلا خدعة ابتكرتها الدعاية الصهيونية، ولا يمكن لها أن تصمد في وجه حقائق التاريخ، أو أبجديات المنطق وعلوم الاجتماع، أو حتى العلوم البيولوجية، فكيف لطائفة متعددة الأصول والمنابت أن تصبح فجأة ذات أصل نبيل؟ وكيف لها أن تحافظ على هذا النقاء في منطقة خبرت الفاتحين والغزاة حيث كانوا يتعاقبونها تباعا؟
أما الفلسطينيون، فقد ذكر "عبد الوهاب المسيري" في موسوعته عن الصهيونية، أنهم من شعوب البحر، وهم قبائل مهاجرة أتت من بحر "إيجة" بسبب ظروف مناخية أدت إلى انهيار الزراعة، باحثين عن موطن ومستقر، فوجدوا الملاذ على ساحل فلسطين، بدءا من العام 1194 ق.م، وقد جاء ذكرهم في المصادر المصرية، حيث اسموهم "بلست" وكذلك في المصادر الأشورية، حيث أسموهم "بلستو"، وكان المؤرخ "هيرودوت"، هو من أطلق تسمية "فلستيا" على المنطقة التي سكنها الفلستيون.
ولأنهم لم يكونوا غزاة؛ لم يلبثوا أن اندمجوا مع أهل البلاد الكنعانيين وبدون حروب، وضمن فترة وجيزة، فمنحوا فلسطين اسمها، وعليها نموا وأبدعوا وجودهم الإنساني والحضاري، وتواصل وجودهم في كل الحقب والأزمان اللاحقة.