الإرهاب الذي يمس المدنيين، الذين لا ذنب لهم في أي صراع سياسي أو ديني أو عسكري، مرفوض قانونياً ومدان سياسياً ووطنياً وقومياً ودولياً، سواء كان من جانبنا كعرب ومسلمين ومسيحيين، أو من جانب أعدائنا وخصومنا. فالإرهاب كسلوك وممارسات لا يقتصر على شعب دون آخر، وعلى قومية دون أخرى، فهو عابر للحدود والقوميات والديانات، والذين مارسوه واقترفوا مخازيه ضد الآخر تمت هزيمتهم، ولفظهم التاريخ منبوذين معزولين، وتخلدوا في الدرك الأسفل من تقييم البشرية واهتماماتها.
والإرهاب الذي ولد عندنا ونما في أحضان شعوبنا العربية والإسلامية، من قبل تنظيمات أو أحزاب أو أفراد، سواء كان سببه الاستعمار الأجنبي كما في فلسطين وأفغانستان والعراق، أو الاضطهاد القومي أو الديني أو المذهبي كما يحصل لدى العديد من البلدان، أو دوافعه طبقية وظُلم اجتماعي كما هو واقع في بلدان أخرى، فقد ولد ونما لأسباب سياسية ولتحقيق هدف سياسي وهو التحرر من السلطة السابقة والوصول إلى سلطة جديدة على أنقاضها، كما يحصل اليوم في ليبيا وسورية والعراق واليمن ومن قبلهم في الصومال، ولكن بأدوات إرهابية، وأشكال عنف غير مشروعة لا تتفق مع خلاصة تجربة البشرية نحو احترام الإنسان وتعدديته، والوصول إلى مؤسسات صنع القرار بوسائل مشروعة ومدنية وديمقراطية، تحترم الآخر، وتحتكم لمعايير الانتخابات، ونتائج صناديق الاقتراع.
ولذلك علينا رفض الإرهاب سواء كان مصدره من عندنا أو من الطرف الآخر، وسواء يستهدف شعبنا أو الآخرين.
ومن هنا مصدر الإجماع الوطني والقومي والديني ضد ممارسات "داعش" وسياساته، وضد سلوك القاعدة وأهدافها، فقد فجرت القاعدة مكامن الحقد البشري ضد النفس بذرائع من الخليط السياسي والديني وبغطاء رجعي أصولي لا صلة له بالعصر وقيمه وتطوره، واشتقت سياسة وسلوكاً وخياراً تدميرياً انتحارياً، سار عليه "داعش" بعد انشقاقه عن القاعدة.
صحيح أن شعبنا لم يسلم من أذى القاعدة و"داعش"، والذين قتلوا ضحية السياسة الإرهابية وأدواتها وخياراتها الجهادية كانوا من المسلمين أكثر من المسيحيين، ومن السنة أضعاف ضحايا الشيعة، ومن العرب ما يفوق الكرد وغيرهم، ولكن كما تفعل بالآخرين قد يفعلون بك، وكما الإرهاب مؤذ للآخرين قد يكون مؤذياً لك وعليك.
تلك هي قوانين الصراع، التي صاغها حمورابي "العين بالعين والسن بالسن"، وغدت نهجاً ومدرسة أقوى مما تركه السيد المسيح من تراث "اهزم عدوك بالود وإذا تمادى قدم له مزيداً من جرعات المودة حتى تهزمه". فقد بقيت تعاليم السيد المسيح مثالية أكثر مما يجب، وبقي تراثه نموذجاً أضعف من الواقع الحسي للصراعات بين الشعوب وتصادم مصالحها.
العمليات الإرهابية التي استهدفت أوروبا لم تكن مفهومة، هل استهدفت الأوروبيين عقاباً على سياسات حكوماتهم الاستعمارية نحو منطقتنا أم تستهدف تحرير أوروبا من الأوروبيين وإقامة الخلافة على أرضهم؟
والذين قاموا بأفعالهم ضد المدنيين في أوروبا وفي أميركا، لم يدركوا أن أفعالاً مماثلة قد يرتكبها حمقى متطرفون، بسلوك إرهابي مماثل ضد المسلمين وضد العرب في أوروبا وفي أميركا. وها هي عملية نيويورك التي أدت إلى اغتيال إمام المسجد ومساعده المؤذن، تدلل على ردات الفعل المشينة والمتطرفة من قبل أحدهم أو بعضهم ضد المسجد باعتباره رمزاً للحضور الإسلامي، وضد المسلمين الذين لا ذنب لهم بما اقترفه "داعش" والقاعدة بحق الأوروبيين في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وغيرهم من البلدان، وبحق الأميركيين على أرض الولايات المتحدة وخارجها.
المرشح الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة ترامب، أعلن في برنامجه الانتخابي أنه لن يسمح للمسلمين بدخول الأراضي الأميركية، وحصيلة تحريضه ستترك أثرها انعكاساً لمواقف المتطرفين، وتعبيراً عن ردات فعل لما يجري في أوروبا وخشيتها من أن تمتد للولايات المتحدة، وها هي نيويورك تدق جرس الإنذار الذي قد يكون أولياً على طريق ردات فعل أكثر همجية وتطرفاً من اغتيال الإمام المسلم ومساعده.
في فلسطين سادت رؤية قد تكون أوسع من حزبية وتنظيمية وثأرية. رؤية تقول ليفعل الاحتلال أفعاله المشينة ذات الطابع العنصري والفاشي وإرهاب الدولة، وليبقَ النضال الجماهيري الفلسطيني العادل والمشروع، ضد الاستيطان التوسعي الإسرائيلي، نظيفاً من الإرهاب والكره. ليس محبة بالاحتلال الأجنبي، وليس رأفة بسلوكه العدواني التعسفي المتطرف، بل للحفاظ على أخلاق الثورة ونبل المقاصد الوطنية الديمقراطية لشعب يتعرض للعذاب اليومي، وينشد المساواة والاستقلال والعودة، ومن أجل كسب عطف العالم وتأييده، ومن أجل عزل المشروع الاستعماري الصهيوني وانحداره أخلاقياً أمام المجتمع الدولي على طريق هزيمته أمام بسالة الفلسطينيين وعنادهم الوطني والقومي والديني والإنساني.