لإسرائيل عقيدة عسكرية ـ أمنية واضحة، تعلن عنها لدى كل تغيير أو تطوير لها، مع إخفاء جوانب قد لا تكون ذات أهمية للمتابع العادي، هذه العقيدة تخضع للنقاش والتعديل والخلاف قبل إقرارها من قبل المستوى الأمني الإسرائيلي، الحروب الست الكبيرة التي خاضتها الدولة العبرية خلال العقد الماضي وضعت آثارها الواضحة على هذه العقيدة، خاصة بعد أن تبين أن خوض إسرائيل لهذه الحروب، وما نتج عنها، لم تكن العقيدة الأمنية هي التي شكلت عناصر القتال والمواجهة والردع، إسرائيل خاضت هذه الحروب، دون عقيدة واضحة محدّدة، هذا كان حصيلة نقاشات تسرّبت إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال فترات سابقة، ولعلّ النقد الموجه إلى كل "أركان الحروب" الذين شغلوا هذا المنصب منذ عشرة أعوام والذين قادوا كل تلك الحروب الست، ان نتائج هذه الحروب، لم تكن واضحة تماماً، لا انتصار واضحاً ومحدداً، ولا هزيمة واضحة محددة، وذلك مقارنة مع العقيدة الأمنية الإسرائيلية السابقة، والتي أدّت - كما يرون - إلى هزيمة العرب بشكل واضح ومحدد، وانتصار باهر للدولة العبرية عام 1967، وكذلك حرب "يوم الغفران" 1973، عقيدة أمنية "بالية" حققت انتصارين باهرين كان من شأنهما تغيير الخارطة السياسية في المنطقة بشكل كلي لصالح إسرائيل، التي ترجمت انتصارها إلى انتصار سياسي من حيث بدء تفكير العرب، بعملية السلام بدلاً من شن الحروب، هذا التفكير في العلاقات العربية ـ الإسرائيلية، تبدل حسب شعارات الدولة العبرية، من "الأرض مقابل السلام" إلى "السلام مقابل السلام" وباتت الأرض الفلسطينية والعربية خارج دائرة الصراع.
إذن، فإن عقيدة أمنية توارت، جلبت الانتصارات لإسرائيل، بينما عقيدة أمنية متطورة، أخذت بكل وسائل التطور التقني والفني الحديث على المستوى العسكري، والاستفادة من حالة الإحباط والفشل والهزيمة، لدى الجانب العربي، بتأثير الانتصارات الإسرائيلية السابقة، كل ذلك، لم يؤثر على نتيجة حروب إسرائيل الست، بالشكل الذي هدفت إليه العقيدة الأمنية الجديدة والمتجددة مع كل أركان حرب جديدة، والقول إنه لم يؤخذ بهذه العقيدة بالشكل المطلوب أثناء تلك الحروب كسبب لعدم وضوح "الانتصار الإسرائيلي" إنما هو دليل آخر على فشل هذه العقيدة الجديدة، إذ إن أي عقيدة أمنية، تفتقر إلى القدرة على ترجمتها في الميدان، لن تكون عقيدة أمنية حقيقية، ثم إن الإخفاق في ترجمتها بالميدان الحربي، يشير، أيضاً، إلى افتقار القادة العسكريين إلى الخبرة المطلوبة في الميدان العسكري.
العقيدة الجديدة، أو العقيدة الأمنية العسكرية "الثانية"، تم تطويرها وتجديدها على أنه تطور حاسم بأثر العقيدة الأمنية الأولى، هزيمة الجيوش العربية في حربين، وإبعاد هذه الجيوش تماماً عن أية مواجهة محتملة بالنظر إلى النتائج السياسية لهذه الهزائم، إلاّ أن ذلك لم يوفر "سلاماً" لإسرائيل، بل ان سبل المواجهة معها قد تغيرت، وربما باتت أكثر صعوبة، ذلك أنها باتت تواجه قوات غير رسمية، فدائيين ومتسلّلين، هذه القوات تطورت إلى أن باتت "شبه عسكرية" أخذت بتطوير قدراتها العسكرية مع الاحتفاظ بأعلى قدرة من المناورة والحركة والإبداع العسكري، ولعلّ هذا العامل، من بين عوامل أخرى عديدة، أدى إلى التفكير بوضع العقيدة الأمنية الثانية التي تمحورت حول مفهوم "الردع" بدرجة أساسية.
ومفهوم "الردع" هذا، هو الذي ألزم هذه العقيدة الثانية تبني التوصل إلى نتائج نهائية لأي حرب تقوم بها الدولة العبرية، "غير حاسمة" أي أن هذه العقيدة، لا تهدف لدى ترجمتها إلى تحطيم العدو نهائياً، إلاّ قياساً على درجة "المخاطرة" وبتكلفة مدروسة، وحسب ما تضمنته العقيدة الأمنية الجديدة ـ ترجمة أطلس للدراسات الإسرائيلية ـ فإن إسرائيل فضّلت إدارة التكلفة والمخاطرة، وفضلت نتيجة فاعلة متوسطة وبتكلفة متوسطة على فرصة تحقيق نتيجة فاعلة لافتة بالمخاطرة والتكلفة المرتفعة.
إلاّ أن التناقض في إطار هذه العقيدة، فإن مقارنة بين الحديث عن المخاطر والتكلفة لم يترجم عملياً، كما تقول الدراسة التي نشرها مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، ذلك أن إسرائيل هي من أصرت على مواصلة المواجهة حتى عندما وافق خصومها على وقفها، الأمر الذي يتعارض مع مفهوم "المخاطر والتكاليف" إذ كان على إسرائيل وفقاً لهذا المفهوم، الاستجابة لطلب الخصوم وضع حدّ للمواجهة، حسب الدراسة المذكورة.
إن معاودة قراءة دقيقة لما نشر حول العقيدة الأمنية الثانية، يشير من جديد إلى أن مثل هذه القضايا الكبرى، توضع على طاولة البحث والنقاش والنقد والمعارضة، وعلى الرغم من أن هذا الأمر يخص مجالات سرية، إلاّ أن ذلك لا يمنع من تداول لعناوينها الأساسية، كل شيء يخضع للحوار والنقاش، ولا بأس من القول إن النتيجة لهذه الحروب، غير حاسمة، إسرائيل ليست بحاجة إلى انتصارات زائفة ولا إلى بهرجة الشعارات، إسرائيل بحاجة إلى أن تؤثر نتائج هذه الحروب على الخصم، العدو، الذي هو نحن، فهل نجحت في ذلك؟!