في محاضرة جامعية لي عن استخدام التاريخ في الصراع، ضحكت طالبة وقالت: تذكرني بأبي وأمي؛ كلما حدثت مناسبة عائلية، لعائلة واحد منهما، يتهرب الآخر من المشاركة ويبدأ بتذكير الثاني بكل القصص التي حدثت وتتضمن تقصيراً من أطراف عائلة الآخر. من أكثر آليات الصراع المستخدمة في التفاعل البشري اليومي، التنقيب في الماضي، للبحث عمّا يعزز مشاعر وأفكارا معينة. يحدث هذا بين شخصين أو عائلتين، وبين دولتين وشعبين. من الأمثلة الكلاسيكية، قيام الصرب العام 1989 بإحياء مكثف لذكرى معركتهم مع العثمانيين والألبان العام 1389، وعملية التجييش الطائفي الآن بين المسلمين الشيعة والسنة؛ من استعادة ذكريات وشخصيات قديمة. ولو أراد كل هؤلاء لبحثوا عن ذكريات جامعة مؤلفة للقلوب والصفوف، أو لاكتفوا بالحاضر. هذا بالطبع لا يعني أن الخلافات أو الصراعات، في مختلف المستويات، لا تحدث لأسباب جديدة وجادة أحياناً. في خلاف عمل نشب بين زملاء وتطور لتراشق مكثف للرسائل الإلكترونية بأنواعها (بريد وهاتف)، تدخل أكبر الزملاء سناً وحكمة وخبرة، وقال: ما رأيكم أن نتخيل لدقائق، أننا نعيش قبل أسبوع من الآن (قبل بدء المشكلة)، ونتحدث بروح وعقل ذلك الوقت. ثم استثار الماضي أيضاً، وأشار لصورة زميل راحل ومؤسس للمكان، وقال: احتراماً لروحه، لنخفف هذه الحدة. وحدث ما أراده، نسبيّاً، وتغيرت نبرة الحديث بين الناس. ذكرتني آلية حل الصراع التي اقترحها الزميل، بعملية "استعادة الإعدادات" (Reset Settings)، التي تحدث في أجهزة الحاسوب، أو الهاتف الخلوي. فعندما تتعقد الأمور، هناك خيار استعادة طريقة عمل الجهاز كما كانت عند قدومه من المصنع (إعدادات المصنع)، أو حتى قبل تاريخ معين؛ قبل شهر أو أسبوع، أو ما شابه. ببعض التمعن، وجدت أن "استعادة الإعدادات" هذه قد تجري أيضاً كجزء من عمليات الصراع، للعودة لمرحلة سابقة منه. وخطر لي أنّ الإسرائيليين، ربما، يفعلونه الآن. فعلاوة على الاستحضار المكثف لذكرى عملية ميونيخ الفلسطينية، ضد اللاعبين الأولمبيين الإسرائيليين، العام 1972، هذا الأسبوع، والقدرة على انتزاع اعتراف عالمي بضرورة إحياء تلك الذكرى في كل ألعاب أولمبية، بدلا من التركيز على الانتهاكات الإسرائيلية الحالية ضد الفلسطينيين، والرياضيين والرياضة الفلسطينيين، وجدتُ أثناء تصفحي الروتيني لموقع دورية "فورين أفيرز" التابعة لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، وهي الدورية المهمة جداً لصناع القرار الأميركيين، وحول العالم، إعادة نشر بطريقة بارزة، لمقال نشر فيها مطلع العام 1930، عن "مجزرة" ضد اليهود في فلسطين (بعد أحداث حائط البراق). الكاتب هو هنري نيفينسون. وقالت الدورية إنه رحّالة ومراسل صحف بريطانية عدة. والمقال يبدأ بالقول: إنّ "المذابح ضد اليهود في فلسطين حرّكت غضب وشفقة العالم"، من دون توقف الكاتب عند الأرقام؛ وأنّ نتيجة الصدامات كانت مقتل 116 عربيا مقابل 130 يهوديا، فالأمر لم يكن مذبحة، بقدر ما هي مواجهة. ثم يذهب للتاريخ قائلا إنّ "العالم المتحضر تأثر كثيراً، لأنّه لا يمكن أن ننسى أن كل المفاهيم الحضارية للسلوك والروحانيات جاءتنا من العرق اليهودي". ثم يقول إنّه حتى لو نسينا هذا، لا يمكن تجاوز ذبح هذا العدد من البشر. ثم يستحضر ذكريات الطفولة وكيف درسوا في المدارس عن تاريخ اليهود، وكيف يجاهد بعض الإنجليز ليؤكدوا أنهم جزء من القبائل الإسرائيلية العشر الضائعة. ويتحدث عن التاريخ القديم فيقول إن الفلسطينيين (Philistines)، ذبحوا اليهود في "العهد القديم"، وصلبوهم بدق المسامير في أيديهم على الجدران في مدينة بيسان وغيرها. وينتقل للحديث عن التنظيم الريادي والخارق لليهود في فلسطين، وما يفعلونه لبناء مجتمع ومزارع جديدة، غير مسبوقة في التاريخ. ويقول إنه وهو يرى الجِمال العربية تسير إلى جانب الشارع حيث السيارات اليهودية، يتذكر المقارنة بين "عرقين"؛ الأول (العرب) يحتاجون يوما كاملا مع الجوع والعطش للوصول حيث يصل اليهودي بسيارته في ساعة واحدة. استحضار هذه الروايات، بدءا من ميونيخ وحتى هذا الخطاب الصهيوني الكلاسيكي في "فورين أفيرز"، هو نوع من إعادة عجلة الزمن للخلف، يوم كانت الدعاية الصهيونية مقبولة جدا، ومحاولة "شطب" كل الرأي العام العالمي الذي يرى الاحتلال الصهيوني وجرائمه، ويطالب بوقفها. السؤال: هل هناك حملة مضادة لهذه الحملة؟ - الغد الأردنية