اللافت للنظر، أو ربما المثير للقلق، أن أحداً لم يأت على ذكر اليوم التالي للانتخابات البلدية، ولم يقل للمواطنين ما الذي سيحدث في صباح اليوم الأول بعد أن يتم إعلان النتائج بصرف النظر عن هوية الفائز فيها.
الكل يتحدث عن الانتخابات وكأنها نزلت من الفضاء، لا علاقة لها بأي شيء سبقها ولا بأي شيء سيأتي بعدها، كأنها معلقة في مصير لا يعرفه أحد، أو كأنها عالم وحدها.
لأول مرة يتم الخوض في جدل محدد وضيق على خلاف العادة الفلسطينية الراسخة في جينات الفعل السياسي الفلسطيني حيث يتم إشباع أي حدث نقاشاً؛ خلافاً واختلافاً، للدرجة التي بات فيها يمكن استحضار أي موضوع محلي أو إقليمي حتى يصبح موضوعاً آخر من مواضيع الانقسام.
ليست هذه عادة حميدة بالطبع، ولا يمكن لنا أن نتباكى عليها، ولكن علينا أن نثير ألف علامة استفهام حين فجأة تتحول واحدة من أهم نقاط الخلاف السياسي الداخلي إلى موضع صمت واتفاق لا يتحدث عنه أحد، وعلينا أن نقف واجمين نبحلق في غيمات المستقبل قائلين إن بعض العادات السيئة مستحبة أحياناً.
ما أرمي إليه هنا أن الانتخابات البلدية بكل ما تحمله من أهمية، انتبهوا إلى أنني مثل الجميع أصر على إعطائها أكبر من حجمها وأهميتها، تمر مرور الكرام ونصحو من النوم فجأة فنجد كل ألوان الطيف السياسي متفقة على ضرورة إنجاحها.
والمثير أكثر كيف يصار إلى تمرير الأشياء بوصفها مسلمات قدرية.
بالطبع الانتخابات شيء مستحب، وإنجاحها مهمة وطنية كبرى.
هل هناك من يريد أن يكتب مقالة وربما كتاباً حول أهمية الانتخابات! بالطبع هناك مليون سبب تجعلها أهم شيء يمكن أن يقوم به الفلسطينيون حتى يغيروا الصورة السيئة التي اندمغت في الذاكرة حول الانقلاب وأحداثه السوداء، ولكنّ هناك سببا صغيرا يَجُبّ كل هذه الأسباب، إنه السؤال البديهي والفطري حول لماذا الانتخابات الآن؟ لماذا كل هذا الصمت عن علاقة هذه الانتخابات بعملية إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية؟ لماذا لم يقف أي مسؤول حتى الآن ويقول لنا ما علاقة هذه الانتخابات بعملية المصالحة؟ أو كيف ستسهم هذه الانتخابات في تشكيل واقع فلسطيني جديد. لابد أننا نتذكر بمرارة العبارات الكبيرة التي كانت تقال في خضم ماراثونات المصالحة الوطنية حول بعض المطالب الحزبية والتفصيلات والاستدراكات حول بعض نصوص الاتفاقيات المقترحة لتنظيم عملية الانتخابات الوطنية أو العامة، ولابد أننا نشعر بالأسى كيف كان يتم إجهاض الكثير من المحاولات الجادة أمام بلاغة الخطباء وفلسفة المتحدثين، ولابد أن ثمة الكثير من الفرص الضائعة التي كانت الاستفادة منها ستسعفنا بالمزيد من الوقت بدلا من المزيد من البغضاء والكراهية.
لكن أيضاً المثير أننا هذه المرة نقف أمام واقع جديد يتعمد الجميع فيه عدم الحديث حول أي شيء إلا إنجاح الانتخابات المهمة المقدسة والعتبة السحرية للمرحلة الجديدة التي لا يعرفها أحد.
مرة أخرى صحيح أن هذه الانتخابات انتخابات خدماتية مجتمعية وليس من الصواب في الوضع الطبيعي أن يصار إلى تحميلها أكثر مما تحتمل، لكنها في السياق الفلسطيني ذات أبعاد أكبر بكثير مما قد تعنيه، ونظرة خاطفة على الوضع الداخلي والتنافس الذي يشتعل تدريجياً تكشف لنا كيف تنظر كل الأطراف إليها بوصفها انتخابات سياسية بامتياز.
ولا يبدو أن أحداً جاهز لنزع الدسم السياسي عن هذه الانتخابات، بل إن ثمة تبارياً واضحاً – مرة أخرى وهو مفهوم في السياق الفلسطيني في ظل الانقسام - لصبغها بالمزيد من السياسة وبإشعال التنافس السياسي في أتون مرجلها ذي المظهر الخدماتي.
لكن أمام كل هذا، وعلى اعتبار أن الحكمة تقتضي التسليم بطابع هذه الانتخابات الخدماتية أليس من الصواب أن يصار إلى وضعها ضمن النسق العام للتنمية السياسية وإعادة البناء الوطني، بمعنى أن تكون جزءاً من شيء أكبر منها بكثير يتعلق بالمصلحة العامة.
صحيح أنه ضمن عملية تحقيق المصالحة وتجسيد الوحدة الوطنية قد يتم الاتفاق على القفز عن الكثير من الإشكاليات ومواضع الخلاف في سبيل الوصول إلى المشترك تحت قشور الخلاف، لكن أيضاً ليس من الصواب فجأة تجاهل كل سنوات الانقسام وقضاياه الشائكة والحديث فوراً عن انتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي يوم واحد وضمن تفاصيل مشتركة ومتفق عليها وكأنه لا يوجد انقسام.
صحيح أن جوهر الحكم السيادة والسلطة، ولكن بالنسبة للمواطن فإن جوهره هو تقديم الخدمات، ولكن أيضاً، يمكن لأحد أن يتخيل أن كل التنظيمات ستخوض هذه الانتخابات لأن لديها برامج طموحة لتقديم خدمات أفضل.
المؤكد أن ثمة تنافساً للحصول على أعلى نسبة من أصوات الناخبين للقول إن الجماهير تصطف خلف هذا التنظيم أو ذاك، ومن المؤكد أن عدم النظر بشمولية إلى العملية الانتخابية قد يقود إلى المزيد من الكوارث الوطنية، لأن من ينظر من خرم الباب لا يمكن له أن يرى كل البيت، ومن يقف خلف شجرة ضخمة لا يرى الغابة.
نحن بحاجة لنظرة أكثر شمولية تجعل من هذه الانتخابات خطوة في الاتجاه الصحيح وليست مجرد فرحة عيد، وحتى لا نصدق حدسنا بأنها نهاية لشيء ما لا نعرفه لكنه بالتأكيد ليس الانقسام، وأنها عتبة لمرحلة جديدة قد يغلبنا فيها النشيج النوستالجي على الماضي ومحاولات استعادة أشياء كثيرة.
من المحزن أن النقاش العميق يغيب في ظل الجلبة الكبيرة التي ينشغل فيها الجميع بإنجاح الانتخابات، التي يجب أن تنجح بأي حال، دون أن نأخذ نفساً عميقاً ونفكر حول المستقبل.
لم يفت الوقت بعد إذ يمكن الانغماس في حوار وطني يؤسس لمرحلة جديدة تكون هذه الانتخابات عتبتها ويكون ثمة تصور لليوم التالي لإعلان النتائج ويتم استكمال عملية المصالحة ولكن ضمن اتفاق معلن ومفهوم، حتى لا تكون هذه الانتخابات نهاية لشيء ما.
العنوان من قصة قصيرة لهمنغواي الذي يبرع في تصوير النهايات بعد أن يكوينا بمصائر شخصياته.
لا شيء مضموناً بالنسبة لـ»صفقة التطبيع»
02 أكتوبر 2023