اصطفافات إقليمية جديدة

د. عبد المجيد سويلم
حجم الخط

لكي نفهم ما يجري في المراكز الساخنة من الإقليم، ولكي نفهم الاصطفافات التي باتت بائنة أكثر من أيّ وقت مضى، علينا أن نفتش عن الموقف التركي بعد محاولة التمرّد الفاشلة، كما علينا أن نفتش عن تداعيات وتطورات المسألة الكردية بصورة أكثر تحديداً.
وبالعودة الى الموقف التركي والموقع التركي الجديد يمكن إيجاز ما جرى على النحو التالي:
انخرطت تركيا في الحرب على سورية ليس من موقع مصالحها القومية الحقيقية وإنما من موقع الحلف الأميركي الإقليمي ورؤيته الخاصة للصراع في سورية وعليها.
أقامت تركيا حلفاً «وهمياً» مع الولايات المتحدة ومع العربية السعودية لأن الولايات المتحدة لم تنتظر من تركيا ما هو أبعد من المساهمة والمشاركة في «إعداد» المعارضة السورية لكي يكون لها الدور المطلوب في المعادلة السياسية القادمة، وكذلك في «ضبط» إيقاع التمدد الداعشي عند حدود السيطرة الأميركية عليه.
عند درجة معينة من هذا التمدد أصبحت داعش خارج هذه السيطرة، وتحولت تركيا من ملاذ وممر آمن إلى منطقة رخوة لنشاط داعش، وأصبح الموقف التركي حرجاً للغاية.
فمن جهة الحرب على داعش ستكلف كثيراً والبقاء في اطار الدور الذي رسمته أميركا لتركيا لن يعني سوى خروجها (أي تركيا) من «المولد بلا حُمُّص»، خصوصاً وأن الدور التركي ـ كما رسمته أميركا ـ قد أدى بتركيا إلى عداءات كبيرة وكثيرة ومع محيطها بدون فائدة ولا طائل.
لم يكن مع ذلك بمقدور تركيا أن «تتمرّد» على ما جنت به على نفسها إلاّ باستدارة كاملة وهو الأمر الذي توفّر لها بواقعة المحاولة الانقلابية الفاشلة. أي ان تركيا كانت بحاجة إلى هذا «الانقلاب» حتى تتمكن من الإقدام على هذه الاستدارة الكبيرة.
فاستدارة من هذا النوع وبهذه الدرجة وهذه السرعة كانت مستحيلة بدون الذريعة «الانقلابية»، وكانت ستؤدي حتماً إلى اهتزاز سياسي كبير دون «التطهير الكبير» الذي أقدم عليه الرئيس التركي.
أكثر ما كان يقلق القيادة التركية هو الموقف الأميركي والإسرائيلي، أيضاً، من الطموحات الكردية في كل من العراق وسورية.
شعرت القيادة التركية، وخصوصاً في الأوساط العليا من حزب العدالة والتنمية أن الصفقة الأميركية الكردية هي في الواقع مفتوحة وليست مغلقة، وان حدودها قد تصل إلى «تأييد» أميركي ضمني (حتى الآن) وربما تعلن لاحقاً لنوع «ما» عن حق تقرير المصير سيمسّ حتماً الأكراد في تركيا إضافة إلى أكراد سورية والعراق وربما إيران لاحقاً.
ومن وجهة النظر التركية فإن سورية النظام كانت «تهادن» أكراد سورية حتى الآن، كما أن العراق النظام هادنت أكراد العراق حتى الآن، في حين أن إيران ترفض تقديم أي تنازلات لأكرادها، بل هي على استعداد دائم لقمع أي تحرك لهم بهذا الشأن.
إذن تركيا أدركت أن قضية الأكراد أصبحت على جدول الأعمال، ليس فقط على صعيد الدعم الأميركي لهم وإنما على صعيد (جاهزية) النظامين السوري والعراق لمهادنتهم ولو مؤقتاً، وهو الأمر الذي كان سيضع تركيا أمام «الأمر الواقع» دون أن تقوى على التمرّد عليه أو الوقوف في وجهه.
لكل ذلك أقول إن تركيا كانت «بحاجة» إلى تلك المحاولة الانقلابية وكان يستحيل عليها (أي تركيا) أن تقدم على «التمرّد» الذي أقدمت عليه على الرؤى الأميركية والتصورات والترتيبات الأميركية للدور التركي، وعلى هذه الترتيبات للورقة الكردية. من هنا بدأ الاصطفاف الجديد وهنا بالذات تكمن كل «أسرار» المواقف التركية الجديدة.
في غضون عدة شهور فقط تغيرت مفردات ومصطلحات تركيا وانتقلت من اتجاه إلى اتجاه معاكس. تتحدث تركيا اليوم عن «صداقة» أكيدة وراسخة مع روسيا، بعد أن كانت تتحدث عنها بلغة التهديد والوعيد، وتتحدث تركيا عن وحدة وسلامة الأراضي السورية والعراقية بعد أن كانت تساهم بصورة مباشرة في تهديد هذه الوحدة وهذه السلامة، بل ان القوات التركية لم تتورع عن التدخل في الأراضي العراقية وتقصف هذه الأراضي بصورة مستمرة، بل وكانت تركيا بالذات وعلى وجه التحديد هي التي تطالب بـ»المنطقة الآمنة» في شمال سورية وكانت ترى من الأهمية بمكان وجود منطقة عازلة يمكن أن تقتطع أكثر من 20% من كامل الحدود السورية التركية.
لم تعد العربية السعودية حليفاً استراتيجياً لتركيا حسب آخر المصطلحات السياسية والإعلامية التركية، ولم يعد يهمها كثيراً الموقف الأوروبي من قضايا حقوق الإنسان، ولا حتى البروتوكول الخاص باللاجئين، وأصبحت على استعداد لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل (لتفادي التدخل الإسرائيلي في المسألة الكردية) مقابل الدور التركي في «محمية غزة» أو هي اليوم تسعى لتعزيز العلاقة مع إيران بكل السبل والوسائل المتاحة.
سورية النظام وروسيا بنسختها القيصرية الجديدة وإيران تلقفوا الاستدارة التركية باعتبارها الهدية التي نزلت عليهم من السماء، وهم على نار هادئة يحضرون الأرضية لاستقبال «الضيف الجديد» بما يشبه أعلى درجات من لعبة تقاسم الأدوار.
روسيا أصبحت على قناعة بأنها الطرف الأكبر والأهم «لوراثة» التركة الأميركية في هذا الإقليم، وأصبحت إيران على قناعة تامة بأن دفاعها عن مشروعها الخاص قد بدأ يؤتي أُكله كما يجب، وسورية النظام أشعرت الأتراك من خلال معركة «الحسكة» أنها (أي سورية) مستعدة لكبح جماح الأكراد السوريين، ومستعدة لتعاون «إقليمي» لوضع استراتيجية ضوابط شاملة لكل الطموحات الكردية.
الأوراق تفلت من يد الولايات المتحدة وتتطاير واحدةً تلو الأخرى، وروسيا تعدّ العدّة لحل سياسي في سورية ليس على الولايات المتحدة سوى الموافقة عليه، لأنه ليس ولم يعد بمقدورها سوى المناورة في بعض تفاصيله، وربما العمل على تأجيله فقط لعدة شهور بدلاً من السنوات.
لا شكّ أن روسيا قد ربحت الحرب في سورية وعليها، ولا شكّ أن إيران قد عرفت كيف تدافع عن مشروعها، وتحمّلت أعباء هذا الدفاع، ولا شك، أيضاً، أن النظام السوري قد ٍ»صمد» صموداً أسطورياً واستفاد بصورة استثنائية من تناقضات المصالح الإقليمية، وعرف كيف يدير معركة البقاء بالرغم من كل الأهوال التي نتجت عن هذه المعركة. أما تركيا فقد بدأت بالاستدارة الكبيرة أملاً باللحاق والتعويض السريع عن ما فاتها من مساحة تم احتلالها من حلفائها الجدد بسنوات كاملة.
وأما العرب فليس لديهم مشروعهم أصلاً للحديث عن دفاعهم عن مشروع كهذا.