ما بين طرد القوات العراقية من الكويت، وما بين احتلال بغداد، احتاجت واشنطن إلى 12 عاماً، كي تنهك الدولة العراقية، من خلال فرض حصار جوي وبري، دولي وإقليمي، ولم يكن هدفها الوحيد أو الرئيس هو إسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين. ولو كان الأمر كذلك، لخططت عملية انقلابية ضده، أو لقامت باغتياله.
ومنذ اندلاع الثورة بسورية، في آذار من العام 2011 وحتى الآن، مرت خمس سنوات، كان يمكن للغرب، وحتى باتفاق دولي، ترتيب أمر رحيل الرئيس بشار الأسد، بهذه الطريقة أو تلك، لكن أيضاً يبدو أن الهدف الذي تطمح «سيدة عالم ما بعد الحرب الباردة» للوصول إليه، ليس هو إسقاط نظام الأسد، ولا شخص بشار بالتحديد.
في الحقيقة، إن عملية تفكك الدول العربية بدأت - تماماً - في نفس الوقت الذي سقط فيه جدار برلين، وتفكك فيه الاتحاد السوفياتي والاتحاد اليوغوسلافي، وانهار فيه ما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي.
ففي العام 1991 سقط نظام الرئيس الصومالي _ وهي دولة عربية، عضو في جامعة الدول العربية، لمن لا يعرف أو لمن نسي هذا الأمر _ ولم يرث نظام حكم الفرد الدكتاتوري المنهار، سياد بري، نظام حكم ديمقراطي أو ليبرالي ولا أي نظام حكم دولة، بل ورثته جماعات مسلحة تنازعت فيما بينها، وأدخلت البلاد في أتون حرب أهلية، بددت الدولة وأفقرتها وشردت السكان، ولم تقم للبلاد قائمة حتى الآن، أي بعد ربع قرن.
نموذج الصومال، شجع الغرب، والولايات المتحدة على نحو خاص، لتعميمه على البلاد العربية، فكان أن بدأت بالعراق، والتي هي غير الصومال، من حيث المكانة الإقليمية والتاريخ والاقتصاد والجغرافيا. كان تفكيك البلاد الهدف الأهم، ومن ضمن ذلك الأخذ بيد الأكراد، والتحالف من تحت الطاولة مع إيران، وبدء التحضير لإطلاق حرب طائفية في المنطقة، عنصرها الرئيس (سني/شيعي)، وكان إسقاط سريع أو اغتيال مبكر للرئيس صدام، موحد بلاد ما بين النهرين، سيؤدي إلى قطع الطريق على هدف تفكيك الدولة، والتي لا يمكن لأحد الآن وبعد أكثر من 13 عاماً على احتلال بغداد من قبل القوات العسكرية الأميركية أن يدعي بأنها عادت دولة موحدة، أو أنها قوية عسكرياً أو سياسياً أو أنها تلعب أي دور إقليمي كما كان حالها، على مدار نصف قرن قبل ذلك.
سورية ومنذ خمس سنوات تتعرض للتفكيك وللتدمير الممنهج، ومن يقوم بنظرة عابرة أو سريعة على حجم الخسائر والأضرار التي تعرضت لها البلاد، على الصعيدين البشري والاقتصادي، سيظن أنها تعرضت لعدد من القنابل النووية، أين منها قنبلتا ناغازاكي وهيروشيما!
ومن يتابع ما يجري في ليبيا، لا يساوره أدنى شك، بأن ليبيا القذافي صارت عدداً من الولايات والإمارات، أو حتى مجمعات العشائر، وليس هناك من دولة حقيقية على الأرض ولا حتى في طرابلس العاصمة.
واليمن منشغل في داخله الذي يغلي وشغل معه الجزيرة العربية بأسرها، والكل مشغول منذ خمس سنوات بربيع عربي لم يثمر بالشيء الكثير أو الثمين، وهكذا _ حلقت وحدها _ إسرائيل التي كانت هي بالذات مركز الاهتمام العربي حين كان العرب يجمعون على أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى أو المركزية!
إلى أن جاء الدور على الفلسطينيين أنفسهم _ وما في حد أحسن من حد _ الذين انقسموا على السلطة، فتقاسموا ربع فلسطين التاريخية، والتي هي تحت الاحتلال، بصراع مقيت على سلطة لا سلطة حقيقية لها. ومنذ عشر سنوات، والفلسطينيون عاجزون عن وضع حد للانقسام السياسي والجغرافي بينهم، ما يبعد عن أعينهم لحظة رؤية بلادهم محررة من الاحتلال الإسرائيلي. وكل من ادعى من متشدقي المقاومة غير ذلك فهو كاذب أو أحمق أو مضلل، حيث يستحيل أن تنجح في دحر الاحتلال، وأنت مشتت ومنقسم على ذاتك، والأسوأ قادم، فبديل «حماس» التي دمرت غزة وعجزت عن فك حصارها وإعمارها، هو «داعش»، وبديل «فتح» التي عجزت عن تحرير الضفة، هو قطاع الطرق، الخارجون عن القانون.
وبهذه المناسبة، ستوفر الانتخابات المحلية قراءة مهمة للمجتمع الفلسطيني، ورغم أنها لن تحقق شيئاً باتجاه إنهاء الانقسام، إلا أنها ستظهر تعزيز الروابط العشائرية والعائلية، ومن يدري، فربما تظهر عامل احتكاك إضافي، حين تفوز «فتح» بمجلس محلي مجاور لمجلس محلي فازت به «حماس»!
صحيح أن أنظمة حكم الفرد العربي كانت أنظمة حكم مستبدة وفاسدة، لكنها كانت توحد البلاد أو الأقطار، وهي كانت عنواناً للفرقة العربية حيث كان العرب يطمحون بعد الحرب العالمية الأولى إلى الوحدة القومية، لكنهم قبلوا بحد أدنى وهو وجود دول قطرية، تتضامن فيما بينها ضد إسرائيل على الأقل، وتتضامن ضد أطماع إقليمية عديدة، ومن سقط من هذه الأنظمة فقد أسقط الدولة القطرية معه.
وحيث أنه ليس العرب كلهم ولا الفلسطينيون كلهم يمكنهم أن يتفقوا على برنامج سياسي وحيد، فإنه لا بد من الشروع بإقامة بديل نظام حكم الفرد المستبد قبل إسقاطه، ولا بد أن يكون هذا نتيجة جهد ذاتي، وليس نتيجة ترتيب أو تخطيط خارجي. وبديل طرفي الانقسام الداخلي الفلسطيني _ «فتح» و»حماس» _ ليس أحدهما أو اليسار أو ما إلى ذلك، بل نظام دولة المؤسسات أو مؤسسات الدولة الحديثة، فالتطعيم ضد المرض يوفر القدرة على الوقاية من المرض، وذلك أفضل بكثير من التعرض للمرض ومن ثم تناول الأدوية التي قد ينجح بعضها في العلاج، وقد تفشل كلها في التخلص من المرض.