«قنبلة» سياسية: الحلول الممكنة لـ «لغز» باراك

20162708091735
حجم الخط

بعد عشرة أيام من إلقاء قنبلته، ترك رئيس الوزراء ووزير الدفاع الأسبق إسرائيل وسافر لمتابعة شؤونه في الخارج، وينوي أن يعود بعد نحو ثلاثة أشهر.
في السنتين الأخيرتين يوزع وقته بين تل أبيب ونيويورك، بين طلعات طويلة وسفريات إلى مقاصد أخرى لأغراض التجارة والاستمتاع، وحاليا، ترك في إسرائيل خلفه لغزاً بلا حل.
قبل أن يسافر ملأ باراك فمه ماء، ورفض الاستجابة إلى طلبات الصحافيين إجراء اللقاءات ومطالبات الأصدقاء والشخصيات العامة أن يشرح ما قصد. فرفض الكشف عن سره – إذا كان ثمة سر على الإطلاق – حتى لرئيس لجنة الخارجية والأمن، رجل «الليكود» النائب آفي ديختر.
ولزيادة مستوى الدراما، قبل أن يلقي كلمته، الأربعاء الماضي، في ندوة حركة الوسط – اليسار «طريقنا»، وزع خطابه على الصحافيين قبل ذلك. وفي حديثه كرر عباراته المعتادة، حيث يتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو منذ زمن ما بسلوك يقترب من الفاشية، وعدم المسؤولية والسياسة التي تعرض مستقبل إسرائيل للخطر.
 اتهم باراك نتنياهو بأنه الحق بإسرائيل ضررا أمنيا وماليا جسيما، نحو 7 مليارات دولار، بسبب سلوكه الخاطئ ومواجهته مع إدارة الرئيس براك أوباما في إدارة المفاوضات على اتفاق المساعدات الجديد مع الولايات المتحدة للعقد القادم.
في هذا لم يقدم باراك أي جديد، بل انضم إلى الخبراء والمحللين الذين أعربوا عن تقدير مشابه. وحتى من يتولون المناصب العليا في جهاز الأمن يعتقدون هكذا وإن كانوا ينتقدون نتنياهو في الغرف المغلقة وفي الأحاديث الخاصة وليس علنا.
حسب هذه التقديرات، كان يمكن لإسرائيل أن تتلقى 45 مليار دولار لعشر سنوات لو لم يرفض نتنياهو عرض أوباما الشروع في مفاوضات، قبل التوقيع على الاتفاق النووي بين القوى العظمى وإيران. هكذا أيضا بعد أن هزم رئيس الوزراء في مساعيه لمنع الاتفاق النووي، واظب على رفض بدء المفاوضات مع واشنطن. وعندما سيوقع الاتفاق مع واشنطن، أغلب الظن حتى نهاية السنة، ستتلقى إسرائيل نحو 38 مليار دولار «فقط»، ويحتمل أن تتضرر أيضا قدرة التنمية والإنتاج لدى الصناعات الأمنية في إسرائيل.
ادعاء باراك هذا، لأنه لا يوجد فيه جديد، كان سيستقبل، على أي حال، بعدم اكتراث وبهدوء. ولكن في سياق حديثه ألقى باراك قنبلة إذ قال: «ثمن باهظ يوجد أيضا لحدث آخر. فيه أيضا، مرة أخرى، خليط مقلق من عدم القدرة على تحكيم المصالح الأمنية العميقة وسلم الأولويات التي تمليه، إلى جانب انعدام الاستيعاب لإمكانية التعاون الكامنة مع الولايات المتحدة، وكذا سلوك عملي غير حريص. كل هذه أدت إلى انكشاف مقلق تعرضت له إسرائيل حيال تحد امني مركزي. وبسبب حساسية الأمور لا يمكنني أن افصل اكثر من ذلك»، أنهى ولم يفسر.
وردا على ذلك قال نتنياهو، هذا الأسبوع: «باراك يمكنه أن يهز الذيل وأن يبني عودته».
ورداً على ادعاءات باراك طلب بعض النواب، بمن فهم عومر بار ليف، من المعسكر الصهيوني عقد لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، وفي أعقاب التوجهات العديدة له أوضح باراك بانه لا يثق – وهو ليس الوحيد – بكامل اللجنة، التي تتسرب منها المعلومات، واقترح أن يدعى إلى اللجنة الفرعية للأجهزة السرية، حيث يوجد ثمانية أعضاء ليكشف أمامها سره.
 فاتصل النائب ديختر بباراك وطلب منه أن يشركه في المعلومات. فرفض باراك. هو بالذات يستطيب ديختر، يذكره إيجابا حين كان عريفا في وحدة سييرت متكال.
في التسعينيات المتأخرة من القرن الماضي، حين تولى باراك رئاسة الوزراء خدم ديختر تحت إمرته في منصب رئيس «الشاباك». ولكن في السنوات الأخيرة لاحظ باراك أن الأخير يتوجه يمينا. يبدو أن لا بديل أمامه، إذا كان يحب الحياة السياسية في «الليكود».
 قال باراك لديختر، مثلما قال لآخرين: إنه في اللجنة الفرعية لشؤون الاستخبارات فقط سيكون مستعدا ليعرب عن رأيه. رفض ديختر واقترح أن يعقد لقاء مع بعض أعضاء اللجنة الفرعية، فشك باراك بأن ديختر يحاول إيقاعه في الفخ فرفض الفكرة. فقط للجنة الفرعية توجد مكانة رسمية، منصوص عليها في نظام الكنيست. أما اللقاء مع اثنين، ثلاثة أو أربعة من نواب اللجنة فلا يوجد له مفعول ملزم. وهكذا لم يمثل رئيس الوزراء الأسبق في لجنة الكنيست.
في أعقاب تراشق الأقوال بينهما، نشر ديختر بيانا يسخر من باراك. «المثول أمام لجنة الخارجية والأمن ليس برنامجا يمكن أن تستدعيه»، قال، وأضاف: «الإنسان العادي، فما بالك برئيس وزراء ووزير دفاع سابق، يعتقد بأن لديه معلومات عن ضرر استراتيجي بأمن الدولة، خيراً يفعل إذا نقل هذه المعلومات... ولكن ليس على نمط الأحجية».
 كما قال ديختر: إنه في المستقبل «سيتضح إذا كان هذا مجرد برق ورعد فقط أم في أعقابه يوجد مطر أيضا». وأنهى بيانه بوصفه باراك كمن يعاني من «هوس سلطوي، وفي أسوأ الأحوال من الاكتئاب».

عصي على الفهم
من يعرف باراك يعرف أنه لا يتأثر بالنقد ولا يكن الضغينة لمنتقديه. لديه القدرة على أن يلتقي ويتعانق مع اكبر المشهرين به، وكأنه لم يحصل شيء على الإطلاق. وعليه يمكن التقدير بأن أقوال ديختر لم تؤثر على مزاجه. الاكتئاب هو آخر ما يمكن أن ينسب له. فهو يستمتع بالحياة الطيبة التي يقضيها في المحاضرات وفي جلسات الاستشارات للشركات الدولية مقابل مبالغ طائلة تأخذ بالازدياد فقط. ومن المشوق بالمناسبة أن نعرف كيف يمكن لمن دخلوا في العقدين الأخيرين في الحياة السياسية في إسرائيل كبسطاء، أن يخرجوا منها هم وأبناء عائلاتهم كأغنياء. نتنياهو، أيهود أولمرت، آريه هيرشيزون، آريه درعي، أفيغدور ليبرمان، باراك وآخرون.
بين صفقة ما وأخرى يحرص باراك على القيام بهوايته. فعندما يرى آلة بيانو، يجلس ويعزف. وعندما يرى ساعة عتيقة يشتريها كتحد، حتى لو كان ثمنها عاليا جدا – كي يفككها ويعيد تركيبها. وهذا لا ينجح دوما بالمناسبة.
المحقق الخاص، مئير فلبسكي، الذي هو واحد من الدائرة الداخلية لمؤيدي باراك ومن شجعه على التنافس على رئاسة الوزراء في العام 1999 رفع، هذا الأسبوع، إلى «فيسبوك» بعضا من تشخيصاته الحادة عن باراك. «فكرت مثل جموع شعب إسرائيل بما تحتاجه الدولة لدرجة أني أوصيت بالتنافس حتى ضد اسحق رابين (الذي أحببته وقدرته) وشمعون بيريس (الذي لم احبه ولم اقدره)»، كتب فلبسكي، «لقد سبق أن اعتذرت عن هذه الفضيحة. ما العمل، تبين كأيهود باراك آخر. المحلل اللامع، العارف ذو الذاكرة العميقة والناثر للثناء تبين كغريب عصي على الفهم.
«اذهب وحاول أن تشرح كيف أن شخصا مع كل هذا القدر من العقل ينجح في القيام بهذا القدر الكبير من الأفعال الغريبة. طلب مني ذات مرة أن أقارن بينه وبين رابين فقلت: «رابين هو حاسوب من الجيل القديم. انت تدخل إليه سؤالا، فترى الآلية تعمل ببطء، وفي النهاية تحصل على جواب. أما أيهود فهو الحاسوب الأكثر تقدما، يجيب قبل أن تكون انتهيت من إدخال السؤال».
كما كتب فلبسكي: «أيهود باراك هو الحاسوب الأكثر تطورا. ما حصل هو انه في نهاية خط الإنتاج أخذ عامل ما مفكا وشرط القرص».

ديغول الإسرائيلي
حاول محللون سياسيون في الأيام الأخيرة وصف كلمة باراك في ندوة «طريقنا» كخطوة مخططة وذكية من خلالها يسعى للعودة إلى السياسة. نوع من ديغول إسرائيلي، ينتظر الشعب أن يدعوه إلى العلم. ولكن من أحاديث كانت لي قبل بضعة اشهر مع باراك أخذت الانطباع بانه لا يهتم بالعودة إلى السياسة. بالنسبة له يوجد مجال واسع بما يكفي بين أداء منصب رئيس وزراء وبين الاختفاء التام عن عين الجمهور. يدعي باراك أنه مجرد مواطن قلق يسعى ليؤثر على الخطاب.
 فلبسكي هو الآخر يعتقد أن باراك لن يعود إلى مركز المنصة السياسية لأنه سيستخسر التخلي عن المال الطائل الذي يجنيه في الأعمال التجارية. فلعله يكون مستعدا ليعمل كمستشار خلف الكواليس، وحتى هذا مشكوك فيه.
لا بد أن باراك يتسلى بدفع الآخرين ليحلوا لغز ما «قصده الشاعر». وكان محلل «يديعوت أحرونوت» لشؤون الأمن، أليكس فيشمان، طرح إمكانية أن يكون باراك ألمح لفكرة أن الولايات المتحدة اقترحت على نتنياهو أن تخزن في أراضي إسرائيل قنابل خارقة للخنادق العميقة والتي لا توجد في إسرائيل وكذا «أسلحة استراتيجية».

صداقة رائعة مع بوتين
إمكانية أخرى هي بمثابة «مسيرة» وليست مجرد حدث لمرة واحدة، تؤثر على العلاقات مع الولايات المتحدة هي العلاقات التي تنسج علنا وفي الخفاء بين نتنياهو والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
قفز نتنياهو أربع مرات في السنة الأخيرة في زيارات قصيرة إلى موسكو. واستضافه بوتين في عرض باليه لفرقة بولشوي. هذه بادرة لا يمنحها بوتين في كل يوم ولكل شخص. وبين الزيارة والزيارة يكثر نتنياهو من الاتصال ببوتين ويطلعه على تطورات مختلفة أو يعرض عليه طلبات مختلفة. وهذا الأسبوع أيضا اتصل نتنياهو ببوتين.
من الصعب فهم هذه الصداقة الرائعة بين الرجلين. لقد كان ممكنا تفسير الرحلة الأولى بالحاجة العاجلة إلى إقامة آلية تنسيق مع روسيا منعاً لوقوع حوادث بين سلاحي جو الدولتين في سماء سورية. ولكن ما أن أقيمت الآلية حتى لم تعد حاجة لتُفعّل من خلال رئيس الوزراء. هذا ينبغي أن يتم وهو يتم على مستوى الضباط الكبار.
لا يشرك نتنياهو أعضاء الكابينت أو نوابا آخرين، فما بالك الجمهور، في محادثاته مع بوتين، باستثناء البيانات العادية التي لا تقول شيئا تقريبا.
يجدر بذكر أنه في العلاقات الدولية بشكل عام، وبالتأكيد مع بوتين، لا توجد وجبات مجانية. نتنياهو وإسرائيل يدفعان بعملة ليست معروفة بعد طبيعتها، لقاء تسخين العلاقات بين الدولتين. بوتين هو زعيم ذكي، داهية وفنان في التضليل – مزايا أخذها لنفسه من عهده في الـ كي.جي.بي (المخابرات الروسية)، وكل هذه يجب أخذها بالحسبان.
 وفضلا عن حق الجمهور في المعرفة، يجب أن نفهم أن نتنياهو يتخذ سياسة جديدة تدفع إسرائيل من خلالها لتجتذب في محور تسعى روسيا إلى إقامته في الشرق الأوسط. هذه منظومة توجد فيها سورية بشار الأسد، «حزب الله»، ايران، واليوم تركيا أيضا، تدير غرفة عمليات مشتركة لتنسيق الحرب في سورية. بل إن ايران سمحت لروسيا بأن تستخدم قاعدتها لسلاح الجو في همدان.
غاية هذه المنظومة ليس فقط إنقاذ نظام الأسد بل تقزيم مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ودق أسفين بينها وبين أصدقائها التقليديين بمن فيهم إسرائيل.
 لقد سبق أن كانت هناك تقارير عن تسلل طائرات قتالية روسية إلى هضبة الجولان، اغلب الظن في مهام تجسس وفحص يقظة لمنظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي. كما نشر أن طائرة تجسس روسية حلقت على طول الشاطئ الإسرائيلي، من الشمال إلى الجنوب. ومؤخرا تسللت إلى هضبة الجولان طائرة روسية دون طيار، فشل سلاح الجو في إسقاطها. كل هذا النشاط الجوي الروسي على حدود إسرائيل ليس صدفة. فليست هذه تسللات بالخطأ بل بنية مبيتة. هذه خطوات استراتيجية روسية، ذات أهمية هائلة للأمن القومي لإسرائيل. ورغم ذلك، فان حكومة إسرائيل وجهاز الأمن يفرضان على نفسيهما الصمت ولا يردان على هذه التطورات.
كان يمكن التخمين كيف كان نتنياهو ووزراؤه سيقفزون لو كانت الولايات المتحدة هي التي فعلت أمورا كهذه. فنتنياهو ووزراؤه في الحكومة يتهمون اوباما ويقولون: إن صفقة النووي، التي ترفع العقوبات عن ايران، تحرر الأموال للجمهورية الإسلامية كي تتسلح وتمول الإرهاب. ولكنهم ينسون الإشارة إلى أن من شجع التوقيع على الصفقة اكثر من أي قوة عظمى أخرى كانت روسيا، التي وقعت هي الأخرى عليه. وهذه هي روسيا التي تسلح ايران وتبيعها أسلحة متقدمة مثل صواريخ ارض – جو من طراز أس 300.
 الاستنتاج هو أنه بينما نتنياهو ووزراؤه ونوابه يسمحون لأنفسهم، بشدة وقاحتهم، التشهير بمن تحسن لإسرائيل وهي حليفتها، لا يتجرؤون على فتح فمهم على روسيا. يبدو أن رهبة بوتين وقعت عليهم.
 حتى لو لم يكن باراك يقصد ذلك، يجدر بالجمهور في إسرائيل أن يعرف أن التقرب إلى روسيا هو لعبة خطرة، وأن العلاقة بين نتنياهو وبوتين لا تخفى عن عين الإدارة الأميركية وتثير لديها بعض الشكوك، وإن لم تكن علنية تجاه إسرائيل.