ضحكت وأنا اقرأ الخبر عن سيدة مسنة (91 سنة) في «نورمبرغ» الألمانية تهوى الفن، ذهبت في الشهر الماضي إلى متحف «نيويس» ووجدت على الجدار خانات للكلمات المتقاطعة فأخرجت قلمها وقامت بملء حروف الكلمات إلى أن تنبه حراس المتحف إلى امرأة تشوه (إبداعاً). ولم يخطر ببال المسكينة أنها أمام (إبداع) ثمنه آلاف الدولارات.
من طرفي وجدت في ما قامت به تلك السيدة نقداً فنياً عفوياً لهراء يصر البعض على إقناعنا بأنه (الحداثة)!..
وسبق لهذا النقد الفني العفوي للبسطاء أن تجلى في أحداث طريفة أخرى لعلها صرخة رفض عفوية دونما محاباة أو (فزلكة)! إذ ان معظم عباقرة (الفن الحديث) يستندون اليوم على عكاز ناقد ما يبرر هراءهم (الفني) بهراء آخر لفظي (متشاعر)..
عاملة التنظيف وإبداع (القمامة)!
ومن طرائف الحكايا التي ضحكت لها صحافة باريس طويلاً ما حدث قبل أعوام في القصر الكبير ـ لوغران باليه ـ حيث أقيم يومئذ معرض (الفياك) السنوي الباريسي اي «السوق الفنية العالمية للفن الحديث»، ففي الصباح الباكر جاءت عاملة التنظيفات ووجدت برميلاً للقمامة فحملته ووضعته على الرصيف أمام المتحف مع بقية قمامة الحي بانتظار وصول شاحنة جمعها من الشوارع.. ولم تكن تدري أنها رمت بعمل (إبداعي) حديث للفنان رينوا.. وضحكت باريس كلها لهذا النقد الفني العفوي غير المباشر!
في نيويورك هراء (إبداعي) أيضاً
في مانهاتن نيويورك، ذهبت إلى متحف الفن الحديث (اسم الدلع له موما) وشاهدت معرضاً استعادياً (للمبدع) بروس نيومان.
من طرفي، لا يهمني حقاً المديح الذي يسبغه بعض النقاد على ذلك (الفنان) أو سواه ولا يرهبني، فأنا أنظر إلى الأعمال الفنية بعين غير مستعارة. بروس نيومان استند إلى ناقده الشهير روبرت ستور قائلاً عنه إنه يمثل الجيل الذي جاء ليخلف غاسبر جونز وروبرت روشنبرغ (وقد شاهدت أعمالاً لهما في باريس ولم يخطفا إعجابي!) مضيفاً أنه في مستوى بيكاسو! وأنا مصرة على حريتي في قبول أعمال فنان أو رفضها، بغض النظر عن «عكاز النقد».
عمل إبداعي أم مرحاض؟
وجدت في المعرض الاستعادي لبروس نيومان كل شيء باستثناء الإبداع..
منشآت خشبية كمخلفات معمل نجارة ومؤثرات صوتية نشازية بأنين مدبب كأصوات غرف تعذيب وتماثيل بشرية تدور على خطافات حديدية بأصوات صدئة. دخلت إلى تلك الغرفة الخشبية المثلثة الخاوية ذات الأصوات النشازية المدهونة بلون أصفر حيث وقف فيها طفل مسكين اصطحبته أمه معها إلى هذا الهول (الإبداعي)، وشاهدته وهو يقضي حاجته على أحد الجدران (الإبداعية)!! وشعرت لحظتها بأنني أمام نقد فني بلا مجاملة يستحقه (العبقور) وتساءلت بصدق: إلى أين يمضي ما يدعى (الفن الحديث) الذي قرر أن «الحداثة هي التخلي عن فنية العمل الفني التقليدي»؟
مانزوني في روما وإبداع (القرف)
ذكرني بروس نيومان بزيارتي في روما إلى «متحف الفن الحديث» حيث شاهدت أعمال الفنان الطليعي «مانزوني» وأبرزها (برازه) ـ مع المعذرة من القارئ ـ ذلك (القرف) الذي قام (بتخليده) في (معلبات!!) ولو لم أشاهدها شخصياً لما صدقت ذلك الذي أضاف إليه المتحف صوره وهو يمارس (إبداعه) في دورة المياه!! وفي وضع يثير الاشمئزاز.
كأن بعض نجوم (الفن الحديث) الغربي منذ عقود في مباراة عنوانها: من يستطيع إثارة قرف المتفرج أكثر من الآخر.. هذا إلى جانب إبداع معاصر نادر كالجواهر تحت أكوام من القش القذر المنفر.
هدرت المتاحف آلاف الدولارات لتقديم تركيباتها.. ورحم الله فان غوخ المسكين الذي كان بضربات من ريشته يقول كل ما تقدم بإبداع إستثنائي لكنه اضطر لبيع احدى لوحاته ذات يوم مقابل صحن حساء ساخن.
حذار من التقليد الأعمى
لماذا كتبت كل ما تقدم؟ لأنني في جولتي الدورية على المعارض اللبنانية وجدت أموراً مشابهة للهراء المتعالي إياه. ولاحظت تأثر بعض الفنانين العرب بذلك التيار وذعر بعض نقاد الفن المحليين من انتقاد (الحداثة) الغربية عامة ومقلديها. وأعتقد أننا بحاجة إلى ناقد يجرؤ على الصراخ في وجه أي هراء (إبداعي): «ولكنك عار من الإبداع» كما صرخ ذلك الطفل في وجه الملك الذي امتدحت حاشيته جمال ثوبه الموهوم: ولكنك عار أيها الملك..
(الفن الطليعي) ليس مباراة في إثارة اشمئزاز المتفرج وتخويفه.. هذه هي السهولة اللاإبداعية. المهم ان يجد الفن وسيلة لقول ذلك بفنية راقية.. والدليل اننا ما زلنا نحب بيكاسو ودالي وماغريت ومودلياني ومانش وسواهم كثيرون.
بين فظائع بلادنا (وعنفهم) المرفه
قد تشاهد في معرض لندني نصف جثة بقرة مسلوخة تسبح في (الفورمول) أو أطرافاً بشرية مقطوعة ولكننا لسنا في حاجة إليها لندرك هول ما يدور حولنا وخاصة في عالمنا العربي وليس في دنيا عنفهم «المرفه». وأظن أن «إدوارد مانش» المبدع الكبير رسم في لوحته «الصرخة» ذلك الهول كله بدون إصابة المتفرج بالذعر الرخيص المباشر الفج اللافني، فالإبداع ليس تخويف المتفرج بل توعيته بفنية راقية على همجية عصرنا (الحديث) والعنف الكامن في الاشياء اليومية كلها التي تحاصرنا.. ثم إن الأهوال لا تنقصنا في عالمنا العربي، فلماذا نستوردها مع أساليب غربية في التعبير عنها؟
ألأنها فرنجية و«الفرنجي برنجي»؟