اتجهت ندى إلى دكانٍ قرب منزلها تشتري فوطاً صحية وبعض الحاجيات. هي كانت بحاجة إلى الفوط فقط، إلّا أنّ خجلها من شرائها، جعلها تتعمّد ابتياع بعض أكياس الشيبس والكاتشاب ومسحوق للجلي، آملةً أن تحوّل أنظار البائع الجالس وراء صندوق المحاسبة عن طلبها الأساسي المُلحّ. الفوط الصحّية المغلّفة بورقة بلاستيكية زهر لم تمرّ مرور الكرام على هذا الدكنجي، فلم يغب عنه وضع سائر الأغراض بكيس شفّاف عادي، بينما سارع لتخبئة الفوط في كيس أسود، حتّى يخفي عن عيون المارة في الحي ما تحمله ندى في يدها، وكأنه يحافظ على شرفها! على مشارف عام 2017، لا زال الحديث عن كلّ ما يتعلّق بالعادة الشهرية عند المرأة "تابو" إلى حدّ كبير عالمياً، فليست مجتمعاتنا اللبنانية والعربية وحدها تصنّف هذه العادة في خانة المحظور، بل يبدو أنّ العالم بأسره لا يتعامل معها على أنها روتين طبيعي في حياة كلّ امرأة.
أما في لبنان، فعندما باشرت العلامات التجارية للفوط الصحية بنشر إعلاناتها على التلفزيونات المحلّية، لم تتقبّل شريحة كبيرة من اللبنانيين دخول هذه الدعايات "الوقحة" إلى منازلها عبر الشاشة الصغيرة. وبالنسبة للنساء بطلات الإعلانات فشكّلن محطّ سخرية لدى البعض واستغرابه. وعلماً أنّ مجتمعنا اليوم اعتاد نسبياً على هذا الترويج التجاري العلني على رغم استمراره بإطلاق بعض التعليقات الساخرة، إلّا أنّ إعلانات الفوط الصحية لم تتمكن من كسر التابو الذي يثيره سيلان الدم شهرياً من جسد المرأة، كما أنها لا تظهره بل تستبدله بسائل أزرق!
خطوة جريئة
يظهر جلياً أنّ المرأة نفسها تتجنّب الحديث عن عادتها الشهرية اجتماعياً، وإن فعلت، فعادةً ما يأتي بَوحها بصوتٍ خافت وأمام جمهور محدود من الصديقات أو الأهل المقرّبين كالأم أو الأخت، وعلى شكل مموّه.
وعلى رغم أنّ العادة الشهرية تعني "بيولوجياً" أنها في صحة جيدة وقادرة على الإنجاب، إلّا أنّ النساء يصفن وضعهنّ خلال مرحلة الحيض بالـ"ساخنة"، "جايتني"، "تانت روز عم بتزورني"، "مريضة".. وغيرها من العبارات اللبنانية التي تقابلها عبارات أخرى مماثلة حتّى في المجتمعات الغربية الأكثر انفتاحاً. ففي فرنسا مثلاً تستعمل النساء عبارة "les Anglais débarquent" أي "هبط الإنكليز" نسبة للباس الإنكليز الأحمر خلال الحروب!
أبرز مثال على عادة ستر هذا الموضوع ولفّه، ما ضجّت به مواقع التواصل الاجتماعي أخيراً، بعدما خرقت عدّاءة صينية المحظور بعفويّتها، فتحدثت للإعلام عن عادتها الشهرية. فبعدما خاضت مباراة السباحة 4x 100 m اعتقدت أنّ فريقها الذي حلّ ثالثاً، لم يُحرز سوى المرتبة الرابعة.
أصيبت بخيبة أمل، وأكدت لقناة CCTV: "لم أسبح جيداً اليوم، أعتذر". كانت تمسك بطنها بيدها، وتبدو على وجهها علامات الألم، فسألتها الصحافية التي تحاورها ما إذا كانت معاناتها هذه سبّبت عرقلة لآدائها، فأجابتها السبّاحة ببساطة وطبيعية: "بدأت عادتي الشهرية مساء أمس. أشعر بالضعف الشديد والتعب"، وأكملت: "لكنّ هذا لا يشكّل عذراً، أنا لم أسبح جيداً". بهذه الكلمات العفوية كسرت هذه السبّاحة الصينية المحرّمات الكبرى، خصوصاً في بلدها الصين، وتطرّقت إلى موضوع تتجنّبه نساء الكرة الأرضية وحتّى اللاعبات والرياضيات العالميات.
آلام وصمت
لا يُخفى على أحد أنّ الرياضة تتطلّب من المرأة مجهوداً جسدياً كبيراً. تاريخ الأولمبياد وغيره من المباريات العالمية الكبرى يتمّ تحديده مسبقاً. عدد النساء المشاركات كبير إلّا أنه طبعاً لا تتم مراعاة صاحبات الحظ السيّئ اللواتي يصادف يوم "سخونتهنّ" الأول، في يوم خوضهن المباريات الكبرى، علماً أنّ وضعهنّ الجسدي هذا يؤثّر حتماً على أدائهنّ. في هذا السياق يؤكّد الاختصاصي في الجراحة النسائية والتوليد والعقم الدكتور جوزف أبي شديد لـ"الجمهورية" أنّ الدورة الشهرية مدتها 28 يوماً عند غالبية النساء.
ويضيف: "تمتد فترة العادة الشهرية من 4 إلى 7 أيام، بمعدل دم وسطي، وأوجاع مقبولة، علماً أنّ ثمّة نساء ينزفن الدم أكثر من غيرهن، وبعضهنّ يتألّم أكثر من الأخريات". حول انعكاساتها يتحدث أبي شديد، فيلخّصها بـ "جسم مهدود ومُنهَك، تعَب، مزاج ضيّق، إرهاق، حاجة إلى النوم والراحة، خصوصاً في أول أيام العادة الشهرية"، هذا بالإضافة إلى آلام البطن وغيرها.. ويشير إلى أنّ "الرياضيات لا يتمتعن بكامل قواهنّ ولياقتهنّ البدنية خلال الميعاد، فالأوجاع تمنعهنّ من الركض والسباحة، التي تضرّهنّ أساساً". ويلفت إلى أنّ "الأدوية المضادة للإلتهابات تخفّف من حدّة الأوجاع بشكل جيد، كما يمكن تناول أدوية المغص".
وعن التحكّم بالدورة الشهرية يؤكد: "في حال كانت غير منتظمة، يمكن تنظيمها من خلال إعطاء المرأة دواءً، كما يمكن تأخير موعدها أو تقريبه بأخذ الهورمونات عن طريق الفم". ويوضح: "كان يمكن لهذه العدّاءة تأخير ميعادها وتجنّب حصوله أثناء المباريات، إذا ما كانت تتوقعه في هذه الفترة". ولكنه يضيف: "تتجنّب الرياضيات أخذ الهورمونات إذ يخفن أن تظهر آثارها في فحوصات الدم فيُتهمن بتناول المنشطات". ويتطرّق أبي شديد إلى الآثار الجانبية لهذه الهورمونات: "قد تسبّب وجع الرأس أو ضيق الخلق أو النفور أو القلق، ما يدفع بعض الأشخاص إلى التوقف عن تناولها".
اعتادت نساءُ العالم على استقبال عادتهنّ الشهرية بشكل عادي على رغم كون عوارضها والآلام التي تسبّبها والإرهاق الناتج عنها غالباً ما يكون غير عادي. فهنّ اجمالاً لا يتكلمن ويدّعين أنهنّ بخير كابتات ما يعانين منه، أو مدّعيات آلاماً أخرى لتبرير حالتهنّ ومنها آلام الرأس.
أسباب "التستّر"
لعبت عوامل عديدة عبر التاريخ دوراً في جعل الدم السائل من جسد النساء شهرياً "تابو" ومنها بعض الأديان والمعتقدات التي اعتبرته نجساً. إلى ذلك، يسبّب هذا الدم المرتبط مباشرة بالحياة الشخصية للنساء الإحراج لهن، فهو يظهرهنّ ضعيفات، ويؤكّد كم أنّ بعض التشنّجات الشهرية في البطن والظهر قادرة على إعاقة حياتهن وجعلهن عاجزات. والعادة الشهرية لا تتحكّم بحياة المرأة من خلال إرهاقها وحسب بل تقلقها لناحية أن تتسخ ملابسها جراء الدم أو أن تصادف في توقيت لا يناسبها.. وربما أحد الأسباب الأساسية لكون العادة الشهرية "تابو" يكمن في أنّ الحياة الخاصة للمرأة بأسرها لازالت تُعتبر "تابو"، وأمراً غريباً اجتماعياً يجب ستره.
وحتى اللحظة ما زال العديد من الأهل يسعون لتزويج بناتهن وخصوصاً في مجتمعنا لكي "ينسترن"، ولا زلنا نسمع كلمة "الله يستر عبنات الناس" بكثافة. ويُذكر أن للدم المتساقط من النساء مدلولات عديدة ففي حين يدلّ خلال الدورة الشهرية على خصوبة المرأة، يؤشر تساقطه ليلة الدخلة على عذريّتها، ويتمّ انتظاره من قبل العريس وحتّى الأهل لإثبات عفّتها. فكيف لا يكون "تابو" في عالم تتآكله التابوهات والعقد؟
تشجيع
في ظلّ تملّك الخجل نساء العالم من طبيعتهن البشرية، وسعيهن إلى إخفاء الضعف والآلام التي تعتري وجودهن وسير حياتهن الطبيعي، لا بدّ من الإشارة إلى أن السبّاحة الصينية فو يانهوي خضّت مواقع التواصل الاجتماعي وقد ساندها وشجّعها الروّاد.
هي لم تتسلّق فقط منصة التتويج لتتلقّى الميدالية البرونزيه، بل خطت باعترافها غير المعهود إعلامياً، خطوة ذهبية نحو حثّ النساء إلى التخلص من الخجل من حقيقة الحياة وعادتهنّ الشهرية ودليل خصوبتهنّ.