أبحث عن ذاكرة متروكة في بيروت

ريما كتانة نزال
حجم الخط

على أعتاب بيروت، أتدثر بخيال يتغلغل في أعماقي. بحثت فيه عن أول الدفء وآخر البرد. في قلب بيروت تركت بعض ذاكرتي. وفي كل مرة أحصل على تصريح دخول الفاتحين، أعود للبحث عن ذاكرة عتيقة بين أكوام الحجارة.
أترك مشاعري وحدها في البيت، أخشى عليها من حواجز الاغتراب. ذاكرة المكان كفيلة بتكوين البدائل.
بيروت حلوة، وأنا وحدي أبحث عن ذاكرتي في رخاوة المكان، على موائد المقاهي الموزعة بين جامعة بيروت العربية والحمرا، في دور العرض ورمال الشواطئ. 
تغيرات المكان لا تفسد الذاكرة، ما زال الفستان الأسود يحتفظ بوقاره، والأصباغ بقيت كما كانت؛ فاشلة في إخفاء السذاجة.
عن أي ذاكرة في جنون الشارع البيروتي. تنسيني الزحمة أهدافي السرية والمعلَنة، تصطحبني الزحمة نحو الحقائق والأسئلة السافرة. قديسة أم فاجرة! انظري لما يقوله الشارع، يهمس الغريب في أذني. قراءة عجولة في متغيرات الانقلاب الربيعي وارتداداته.
خطوات ليلية مضطربة باتجاه المقهى القديم، تقودني إليه حاسة سادسة تمتلك حدساً لا يخطئ، ألاحق رائحة البن المحمص على درجة عالية وشذرات عطور باريسية تتسلل بخفة الماضي، على باب المقهى ملصقات وإعلانات و»باركود»؛ على صدور الفتيات.
أنتقي مقعداً بالقرب من ذاكرتي الملقاة بإهمال على الطاولة الفاقدة اللون، رسائل حب واعتذار متروكة، تلوِّح لي بيدها، يتحلق حولها غريبان وقصة.
على ذاكرتي المتروكة أخوض دفاعاً مستميتاً عن حبٍ يترنح على الطاولة. كنت أتلصص على طاولتي التي تغير لونها، وبدأت المساحة الفاصلة بيني وبين ذاكرتي الملقاة تلعب بأعصابي، «لا سبيل للتلاقي» قال الغريب الجالس على الطاولة التي تغير لونها. «احترقي أيتها العنقاء». كانت النار التي تحرق الغريبة، لقد أدركت متأخرة أنها محض صدفة خرافية.
رغبة داخلية في استجواب ذاكرتي المتروكة بين الغريب والغريبة. توقفت الأبجديات والحروف، سكت الكلام وتوقفت الأنفاس. لم يكن بيدي إنقاذ القصة الجديدة على الطاولة التي تركت عليها ذاكرة، ألف باء الحب منذ عقود أربعة. 
أي ذاكرة تركت في المقهى. لغط وثرثرة تدور حول ذاكرة عتيقة، تفيض فتفسد خيالي الشاعري. رائحة استيائي تحوم في المكان تهجو المجهول وتعتب..أترك رسائل هجاء واعتذار من المقاعد وانسحب من مسرح البدايات. أهرب، تودعني المقهى بفحيح وتنهيدة مرّة.
أي ذاكرة تركتها على الطاولة الفاقدة ألوانها، أي بيانات حب قد تغيرت وأي رسائل أتلفتها الهجرة. بالقرب من الطاولة الشاحبة دبّ الرعب وهبت عواصف حزن، تحولات ألف باء الحب.
لا وقت لدي لاستجواب البحر عن اتكاء الملح على الماء. سؤاله عن ابتلاعه الخاتم وانتقالي إلى ولايته. «أريد منك بنتاً واحدة فقط» قلت له. الخاتم في القعر والعمر احترق تحت الشمس وتشرَّد مع القمر. قبضتك تنقل البرد إلى قبضتي.. 
على وجهها أجلس متأملة الزرقة. كلما اقتربَت منها تَبْتعد، بيروت. لا يمكن رؤية المدينة على حقيقتها، لا تصنيف أو معايير تجمعها.. إنها الدنيا الكاملة بخيرها وشرورها، ساحرة ومُغْتَصَبة، تظهر وتبطن ما تريد.. تمد لسانها وتسخر. سأرى انعكاس عري أفخاذها على دهشتي. . إنها مدينة الخطوات المضطربة. المجهول والتناقض والألغاز، من يحبها يتقلب على حافة سكين.
في بيروت، إيقاع قلبي يبدأ بطيئاً ويتسارع، في بيروت أكتشف أثر التنميط وآثار الوحدة. بيروت المدينة الوحيدة التي تحاورني بتناغم ونبض، وتنجح في وضع الابتسامة والدمعة على وجهي.