يمكن بسهولة أن يلاحظ المواطن العادي نشاطاً غير طبيعي للبلديات في الآونة الأخيرة لم يكن يشعر به أو أنه لم يكن موجوداً أساساً في السابق. وفي ظل حمى الانتخابات البلدية المقبلة فإن البلديات باتت أكثر حرصاً على الظهور العلني للمواطن وتأكيد وجودها. وفيما يمكن أن يكون هذا الحرص بالأساس في جوهر مهمة البلديات والهيئات المحلية، فإنه في ظل هذه الحالة ليس إلا جزءاً من السبق على عقل وقلب المواطن الذي عليه أن يتوجه لصناديق الاقتراع في الثامن من تشرين الأول حتى يختار من يمثله في مجالسها.
ومن الطبيعي أن يكون التسابق على خيارات الناخبين جزءاً من التنافس الانتخابي بل هو غايته، لكن الذي ليس من الطبيعي هو أن يصل الأمر إلى حد الاستخفاف بعقول الناس وعواطفهم من خلال التضليل والتزييف والادعاءات الكاذبة حول نشاطات وفعاليات كانت موجودة ولم يكن المواطن يشعر بها من قبل، وبكلمة أو أخرى فإن المواطن كان نائماً فيما كانت البلديات تعمل ليل نهار أو أنه لم يكن يدرك حقيقة هذه النشاطات التي خرجت من مصباح علاء الدين. هناك ثمة فرق كبير بين التنافس على عقل وقلب الناخب وبين التلاعب بالواقع من أجل خلق واقع "افتراضي" سطحي لم يكن موجوداً؛ كأن ثمة من يقول: إن من لم يلاحظ هذا الواقع لم يكن موجوداً في السابق.
وبهذا ينقلب التلاعب كعملية عكسية لا يكون فيها من يصنع الخديعة مخادعاً بل إن جمهور المستهدفين نوعان: جزء لا ينتبه للخديعة وبالتالي يشترى البضاعة وتنطلي عليه الحيلة، وجزء آخر لا يصدقها لكنه تحت وقعها يصبح مثل الابن الضال الذي عاد إلى رشده، وهذا الجزء يصبح هو المخادع الذي كان ينكر الحقيقة الموجودة دائماً لكنه كان يصر على نفيها.
العمليات الذهنية المرافقة لكل ذلك تحتوي الكثير من الترميز والتفكيك الذي يسعى إلى تدمير الحقيقة مقابل عرض جزء مختلف، والزعم بأنه الحقيقة التي لم يكن أحد يعترف بها قبل ذلك. عملية استعادة الحقيقة من رحم التزييف حيث ليست الحقيقة حقيقة وليس التزييف بواقع آخر.
مثلاً لاحظوا البلديات باتت تتحدث عن إنجازاتها وتعرضها عبر أفلام على وسائط التواصل الاجتماعي، كما يمكن بسهولة أن نلاحظ كيف تخط البلديات الشعارات على الجدران تذكر فيها إنجازاتها خلال الفترة السابقة، وهي إنجازات يمكن التأكد بسهولة أنها إنجازات خارج نطاق البلدية أو أنها لم تقم بها بل قامت بها جهات أخرى مثل بكدار أو مؤسسات دولية.
عموماً ليس هذا بيت القصيد، إذ إن الكثير من العمل تكاملي في فلسطين، والكثير من مشاريع البنى التحتية تتجاوز صلاحيات جهة ما، لكن غير المنطقي أن يتم فجأة الاستيقاظ من النوم والحديث عن إنجازات لم تكن موجودة في الذاكرة الجمعية للمواطنين. رغم ذلك فإن ثمة معيقات كثيرة يمكن استذكارها في ظل هذا النقاش يكون الحصار الأليم على قطاع غزة محوره ويكون العدوان المستمر وما يصحبه وينتج عنه من تدمير في البنية التحتية أساساً في الحديث عنه، وهما عاملان تدميريان في تفعيل مكونات البناء أمام سياسة الهدم وفي تعطيل التنمية وإعاقة التقدم والنمو.
لكن رغم ذلك يمكن لمسؤول في حكومة غزة أن يزعم باستهتار كبير بعقول الناس أن النمو الاقتصادي في غزة أمر مؤكد، لأنه لا بد أن يكون يقصد شيئاً آخر بكلمة النمو الاقتصادي غير هذا المتعارف عليه في الأدبيات الاقتصادية والسياسية أو في القاموس العام. ومع هذا فإن لا الحصار ولا العدوان الهمجي المتواصل على القطاع يمكن له أن يعفي أحداً من مسؤولياته وواجباته.
الأمر يمكن ملاحظته أيضاً ليس في الدعاية والإعلام بل أيضاً في النشاط الفعلي الذي يهدف إلى تثبيت حقيقة مختلفة، وأظن أن هذا قد يكون في صالح المواطن الذي عليه أن ينعم ولو قليلاً ببعض الخدمات والتحسينات التي لم يكن يشعر بها سابقاً. مثلاً ولحسن حظي الشخصي فإن الطريق الذي أسلكها يومياً من بيتي إلى حارتي القديمة والتي كانت مليئة بالمطبات والمقاطع المكسرة والحفر الضخمة التي تشل السيارة شلاً تغير فجأة، فجأة أزيلت الكثير من هذه الحفر وسوي بعضها وباتت الطريق أكثر سلاسة بعد سنوات من العذاب. لم يتم تسوية كل شيء، ولكن من الواضح أن أحداً انتبه فجأة وأراد أن يقول: إنه يعمل.
كما يمكن ملاحظة عمال البلدية في الكثير من الأماكن خاصة عمال النطافة في مزاحمة مع المواطنين على الحيز والفراغ، من أجل خلق صورة جديدة لدمغها في وعي الناس حين يذهبون للانتخابات ليقرروا من يمثلهم. والأساس أن البلدية يجب أن تعمل سواء كان هناك انتخابات أو لم تكن، كما أنني لا أقول ولا يقول أحد إن البلديات لم تكن تعمل في السابق، لكنها لم تكن تعمل بالشكل المطلوب، وإنها للأسف تحولت إلى معاول جديدة لتثبيت الانقسام والترويج له، وعملت وفق منهجية انقسامية، وهذا ليس من مهامها. وتأسيساً يجب التفكير بعقلية جديدة تحاول أن تجعل من المؤسسة أكبر من أي خلاف، ولا يتم استحضار الخلاف السياسي حتى حين يصار إلى الدعاية الانتخابية.
مرة أخرى، لابد أن الشروع في الانتخابات والتحضير لها سيكون في صالح المواطن الذي سيكتشف أشياء كثيرة في هذا السباق. فمن جهة سيشعر ببعض التحسينات في الخدمة وقد يكتشف خدمات لم تكن موجودة في السابق أو يكتشف أنه كان مغفلاً ولم يكن يشعر بوجودها.
وعليه فإنني كمواطن أدعو لإطالة عمر الدعاية الانتخابية حتى نتمتع أكثر ببعض التحسينات ويصار إلى التسابق على قلوبنا وعاطفتنا، كما قد أطمع وأدعو لإجراء انتخابات لشركة كهرباء غزة وسلطة الطاقة كي نتمتع ببعض التحسينات في التيار الكهربائي الذي اشتقنا أن نراه حتى لو لنصف نهار.
اقتراح مصري بالإشراف على مخيمات إيواء داخل رفح الفلسطينية
23 أكتوبر 2023