انتهت مرحلة مهمة من مراحل إجراء الانتخابات المحلية، وهي مرحلة تقديم القوائم الانتخابية، وهي في غاية الأهمية كونها تبين الشكل والحجم الذي ستخوض فيه الفصائل والعائلات والكفاءات الانتخابات.
بادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة إلى أن احتمال تأجيل الانتخابات لم يتوارَ كلياً، بل لا يزال احتمالاً قائماً وإن تغيرت العوامل والأطراف التي تعمل على تحقيقه.
فمن جهة، هناك دعوى مرفوعة من قبل أحد المحامين، وبدعم من نقابة المحامين، أمام محكمة العدل العليا، تطعن بشرعية إجراء الانتخابات في قطاع غزة تحت إشراف سلطة الأمر الواقع، إذ سيتولى الأمن والمحاكم التي تشرف وتسيطر عليهما "حماس" توفير الأمن، والبت في المخالفات والدعوات التي لا بد وستظهر أثناء العملية الانتخابية كون ذلك يعطي شرعية لـ"سلطة الانقلاب" كما استندت إليه الدعوى.
ويمكن أن تنظر المحكمة في الدعوى، اليوم الثلاثاء، وإذا أصدرت حكمها باعتبار أن إجراء الانتخابات في قطاع غزة ضمن هذه الشروط باطل شرعاً، فسيؤدي ذلك إلى وقف إجراء الانتخابات. وهذا ما دفع "حماس" إلى التحذير من استخدام محكمة العدل العليا لأغراض سياسية.
وإذا صدر هذا الحكم فليس بالضرورة أن يكون ذلك بأوامر من الرئيس أو من حركة "فتح"، بل إن من يقف وراء الدعوة ومن يؤيد التأجيل أوساط في "فتح" ومن خارجها، ترى من الخطأ إجراء الانتخابات، لأنها ستعطي شرعية لسلطة "حماس"، ولأن "فتح" في وضع لا تُحسد عليه وغير جاهزة للانتخابات. كما أن إجراءها في ظل الانقسام ومن دون توافق سيكرس هذا الانقسام ويساهم في إدارته والتعايش معه.
ويعزز هذا الرأي الرافض لإجراء الانتخابات أن إجراءها في ظل المعطيات القائمة من شأنه إضعاف الفصائل والبعد الوطني، وتعزيز العائلية والعشائرية والجهوية، الأمر الذي يمكن أن يساعد على تحقيق خطة وزير الحرب أفيغدور ليبرمان، الرامية إلى تجاوز السلطة وتعزيز علاقة سلطات الاحتلال مع الزعماء المحليين والأكاديميين، ويقلل من فرص تحقيق الوحدة الوطنية تمهيداً لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وللمجلس الوطني.
صحيح أن غالبية كبيرة في "فتح" كانت ضد إجراء الانتخابات وقت إعلانها خشية من الخسارة، خاصة في الضفة الغربية، وعارضت هذه الغالبية الموقف الذي بادرت إليه لجنة الانتخابات بدعم من الحكومة ورئيسها، وبغطاء كامل من الرئيس أبو مازن.
فإذا خسرت "فتح" الانتخابات، فستكون ضربة قوية جداً لما تبقى من شرعية ومصداقية لها ولسلطتها، ولكن ما جرى منذ إعلان إجراء الانتخابات وحتى تقديم القوائم غيّر الموقف جذرياً.
كيف ذلك؟ لقد راهن الرئيس ولم يستجب للدعوات القوية الفلسطينية والعربية لتأجيل الانتخابات، لأنها ستعيد تأهيل "حماس" ومنحها الشرعية في مرحلة سقوط وملاحقة الإخوان المسلمين على امتداد المنطقة العربية، وعلى ما يبدو أن الرئيس سيربح الرهان. فقد شكلت "فتح" في قطاع غزة قوائم ضمت "فتح" و"المتجنحين" المحسوبين على محمد دحلان، وهذا أمر مفاجئ، ويمكن أن يساهم في تغيير نتيجة الانتخابات في قطاع غزة، خصوصاً أنها تجري في ظل تزايد زخم تحرك "الرباعية العربية"، الذي يضم مصر والإمارات والسعودية والأردن، والذي يضغط بشكل متزايد من أجل المصالحة الفتحاوية الداخلية أولاً، لدرجة إعلان ذلك صراحة في مقابلة الرئيس المصري مع الصحف القومية المصرية الثلاث لأول مرة علناً، وكذلك من خلال ترحيب الرئيس المصري والعاهل الأردني بما وصفاه استجابة اللجنة المركزية لـ"فتح" إلى دعوة لم الشمل، ما يضيق هامش المناورة لدى الرئيس الذي رفض الاستجابة لجميع الدعوات والمحاولات لمصالحة دحلان وإعادته إلى "فتح" والنظام السياسي طوال الفترة السابقة.
ولعل قيام وفد من "فتح" بزيارة إلى القاهرة يضم خمسة أعضاء من اللجنة المركزية لبحث هذا الموضوع مع "الرباعية العربية" مؤشر واضح على أن هذا الملف بدأ بالتحرك، ومن الصعوبة بمكان وقفه.
كما أنّ "فتح" في الضفة استطاعت أن تلملم صفوفها، وأبرزت نجاحاً لافتاً في توحيد قواها ونسج تحالفات مع العائلات و"حماس". وأبرز نجاح لـ"فتح" هو أنها تحالفت في مدينة نابلس مع "حماس" وشخصيات نابلسية برئاسة عدلي يعيش، المحسوب على التيار الإسلامي، وسبق أن خاض انتخابات البلدية في العام 2005 وحصل على 13 مقعداً من أصل 15، وتُجمع التقديرات على أنه قادر على تحقيق فوز كبير من دون "فتح"، وتضمن الاتفاق تبادل رئاسة البلدية بين يعيش وشخصية فتحاوية سترأس البلدية بعد سنتين.
ومن الدلائل الأخرى على احتمالية فوز "فتح"، وجود 181 قائمة في الضفة ستفوز بالتزكية من أصل 416 هيئة محلية ستجرى فيها الانتخابات في الضفة والقطاع، غالبيتها العظمى محسوبة على "فتح".
ومن جهة أخرى، اختارت "حماس" ألا تخوض الانتخابات بقوائم حزبية خضراء، وإنما بقوائم مهنية، خصوصاً في قطاع غزة، بمشاركة كفاءات بعضها حمساوية من الصفين الثاني والثالث، وألا تخوض الانتخابات في جنين، أو تخوضها بقائمة مشتركة مع "فتح" وإن بصورة مموهة كما حصل في نابلس، أو تدعم قوائم كفاءات وعائلات أو غيرها.
وإذا كان هذا التصرف مفهوماً إلى حد ما في الضفة التي يمكن أن يدفع فيها كل قيادي أو كادر أو حتى عضو من "حماس" ثمناً من الاحتلال إذا خاض الانتخابات، كما اتضح من خلال التجارب السابقة، وعبر إرسال رسالة واضحة الدلالة للمرشحين المحتملين من "حماس" في هذه الانتخابات عندما اعتقلت قوات الاحتلال حسين أبو كويك، ممثل "حماس" في لجنة الانتخابات بعد يوم أو يومين من تعيينه. وما تردد هو أن العديد من مرشحي "حماس" المحتملين تلقوا تهديدات مباشرة أو غير مباشرة بأنهم سيقضون مدة السنوات الأربع في السجن وليس في رئاسة المجالس وعضويتها في المجالس التي يمكن أن تفوز بها. كما ساهمت أجهزة الأمن في الضفة الغربية بقسطها في هذا المجال.
يضاف إلى ما سبق، فشل تجربة المجالس التي فازت فيها "حماس" في العام 2005، حيث لم تتمكن من العمل لأن موظفي المجالس البلدية منتمون أو موالون لـ"فتح". كما أن وزارة الحكم المحلي ومختلف وزارات وأجهزة السلطة وسلطات الاحتلال والدول العربية والأجنبية المانحة لم تتعاون معها، وهذا أدى إلى عدم تمكنهم من توفير الخدمات التي انتخبوا من أجل تقديمها.
ما سبق يوضح أن الانتخابات في الشرط الفلسطيني تحت الاحتلال والانقسام لا تتوفر فيها شروط الحرية والنزاهة، ما يفرض ضرورة وأهمية التوافق الوطني قبل إجراء الانتخابات، وخصوصاً قبل إجراء الانتخابات العامة، لتعطيل تدخلات الاحتلال، ولكي تكون خطوة على طريق إنهاء الاحتلال. ورغم إدراكنا لذلك إلا أننا انحزنا بصعوبة بالغة إلى تأييد إجراء الانتخابات المحلية؛ لعلها تلقي الحجر في المياه الراكدة، لكننا حذرنا منذ البداية من أنها نعمة قد تتحول إلى نقمة.
لا يكفي ما سبق لتفسير تواري "حماس" وغيرها من الفصائل وراء الكفاءات وممثلي العائلات في القوائم التي ستدعمها في قطاع غزة. ويبدو أن وراء ذلك أسباب عدة، مالية وسياسية، ومحاولة للانحناء أمام العواصف العاتية التي تهب بشدة ضد "حماس" وجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة. كما تريد "حماس" امتصاص غضب الناخبين في قطاع غزة الذين عانوا الأمرين منذ حكمها لأسباب تتعلق بسياستها وأدائها، أو بالضغوط الفلسطينية والإسرائيلية والخارجية التي لم تمكنها من الحكم.
لقد قررت "حماس" خوض الانتخابات بناء على تقدير بأنها ستفوز حتماً، وأن فوزها مضمون بسبب فشل السلطة والهوة المتزايدة بين القيادة والشعب، وشرذمة خصمها "فتح" وعدم جاهزيته، وخصوصاً في قطاع غزة.
أما الآن، فبعد وحدة "فتح" في قطاع غزة، وما جرى في الضفة من لملمة لصفوف "فتح" وسط تهديد كل من يترشح خارج القوائم الفتحاوية بالفصل، ووسط ما يشبه انسحاب "حماس" من خوض الانتخابات مباشرة قد يؤدي إلى مراجعة "حماس" لقرارها بالمشاركة في الانتخابات الذي لم يتخذ بسهولة كما تشير المعلومات، خاصة إذا قدرت تزايد احتمالية خسارتها، وتحديداً في القطاع، فـ"حماس" لن تتحمل خسارة في معقلها تفقدها ما تبقى لها من شرعية.
وإذا حصل ذلك، نكون قد بدأنا بمطالبة فتحاوية بتأجيل الانتخابات، وانتهينا أو سننتهي بمطالبة حمساوية بتأجيلها أو منعها أو تعطيلها في بعض المواقع إذا تزايدت الاحتمالات بالخسارة. فـ"فتح" خاضت المعركة بتعليمات من أعلى المستويات بعدم الاستعداد للخسارة في الضفة مهما كان الثمن، وبأي شكل، وما يمكن أن ينجز في غزة زيادة على البيعة، بينما "حماس" على العكس من ذلك، لأنها لن تقبل بأي خسارة في غزة، وأي فوز في الضفة هو مكسب إضافي لها.