للفقهاء قولهم الفصل في موضوع الحجاب، رغم أن بعض المفكرين الإسلاميين وأبرزهم د. جمال البنا، له رأي آخر، وأيضا الشيخ مصطفى راشد، الذي أكد أن الحجاب ليس من أصول الدين، بل هو عادة اجتماعية، ونال شهادة الدكتوراه من الأزهر بناء على هذه المقولة.
وطبعا من تعجبه المقولة سيأخذ بها، ومن لم تعجبه، أو وجدها تتعارض مع البديهيات التي نشأ عليها سيرفضها، وسيلصق بصاحبها أبشع التهم.
لن نخوض في هذا الجدال الفقهي، لأنه ليس مجال المقال، وسنتناول الموضوع من أبعاده التاريخية والاجتماعية.
في التاريخ القديم، تعرضت المرأة لشتى صنوف الاضطهاد، وعوملت على أنها أدنى مرتبة من الرجل، وكان الحجاب أحد أشكال إخضاعها؛ الزرادشتية مثلا، ألزمت المرأة قبل دخولها المعبد أن تضع لثاما على وجهها كي لا تلوث أنفاسها (النجسة) النار المقدسة، وفرضت عليها كل صباح أن تقف أمام زوجها وتنحني له تسع مرات.
وفى أثينا القديمة كان يتم عزل النساء حتى لا يراهُنَّ الرجال من غير أقربائهن المقربين. بعض الإغريق كانوا يحبسون نساءهم في غرفة يقف على مدخلها كلب، وإذا خرجت وجب أن يكون في صحبتها رجل مسن.
أما اليهود فقد كانوا من السباقين في اضطهاد المرأة، فمثلا تعترف المشناة للرجل بالحق أن يبيع ابنته القاصر أَمة، أو أن يزوجها لمن يشاء، كما عززت اليهودية فكرة الحجاب (وكذلك النقاب) إلى درجة أن نساء بعض الطوائف يلتزمن به حتى وهن في المطبخ، تطبيقا لما جاء في العهد القديم.
ولعل هذا يعود إلى أن معظم الذين وضعوا أحكام المرأة وألزموها بالحجاب من بيزنطة وروما وأثينا، ومن جاء بعدهم حتى عصرنا الراهن تعاطوا مع المرأة بوصفها أنثى فقط، أي بتجريدها من بُعدها الإنساني، وبالتالي صارت قضية الزي ترتكز أساسا على أنوثة المرأة، وليس على احتياجاتها ورغباتها كإنسان؛ وصارت للأزياء وظيفة أخلاقية، علما بأنها ليست كذلك؛ العرب قبل الإسلام غطوا رؤوسهم اتقاءً للحر وقيظ الصحراء وغبارها، وكان هذا للنساء والرجال على حد سواء.
وكان الحجاب في تلك الفترة وفي صدر الإسلام وسيلة لتمييز المرأة الحرة عن الأمة، فكان ممنوعا على الجواري ارتداؤه.
والسؤال هنا: هل ثمة فرق بين المرأة الأنثى والمرأة الإنسان!؟ الإجابة ببساطة تكمن في ذكورية اللغة وذكورية المجتمع الذي يتعامل مع الرجل بوصفه إنسانا، على عكس المرأة، ويغطي على هذا الفرق بغطاء سميك من الدوغما؛ فالرجل يتحدث عن حاجاته وقضاياه دون الحاجة للتذكير بأنه ذكر؛ لأن المجتمع والقانون والسلطة أعطته كل ما يريد كذكر وإنسان، بينما المرأة تم حصرها في إطار الأنوثة، ومن ثم تم تكبيلها من خلال هذا الإطار بكل القوانين والأعراف التي فُصِّلت لصالح الرجل.
في المجتمعات المتحضرة يتم التعامل مع الإنسان بوصفه مواطنا، له شخصيته وكيانه وحقوقه وعليه واجباته؛ أي بتكريس البُعد الإنساني للفرد، دون النظر إلى جنسه.
ومع ذلك ظلت المرأة في المجتمعات الغربية تتجاذبها عاطفتها كأنثى، وعقلها كإنسان، صحيح أنها نجحت إلى حد ما أن تحقق التوازن بينهما، لكنها وفي الوقت نفسه كانت أحيانا تبالغ في إبراز الجانب الأنثوي فيها، وساعدها المجتمع في ذلك، إذ تخيل بأن الحرية الجنسية دلالة على حرية المجتمع وتحرره من قيود الماضي، وأن الجنس رمز لسعادة الإنسان وتمتعه بالحياة، وكانت النتيجة أولاداً بآباء مجهولين، وأمراضاً جنسية، وشركات نهمة وظفت جسد المرأة لزيادة أرباحها، بعد أن نزعت عنها إنسانيتها.
المرأة المسلمة كادت تحل مشكلتها إزاء قضية المرأة: الأنثى والإنسان، عندما أخذت بزيٍ عصري يحقق لها الحشمة، وفي الوقت نفسه لا يطمس شخصيتها، ولا يلغي كيانها كإنسان، ويلبي رغباتها الدفينة في إبراز جمالها.
والحجاب بهذه الصورة البسيطة غير المعقدة لا يطمس شخصية المرأة، لأنه يظهر وجهها، وشأنها في هذا شأن الرجل تقريباً، ولا ينتقص من جمالها، بل لعله يضفي عليها جمالاً آخر، ويظهرها كحمامة بيضاء (على حد تعبير جمال البنا)، بل إنه كما يقول "البنا" يحل للمرأة مشاكل من نوع آخر، فمثلا يريحها من تبعات مواكبة الموضة وتكاليفها الباهظة، وأحيانا يخفي عيوبا معينة.
لكن المشكلة في بعض أحزاب الإسلام السياسي، التي تريد حصر قضايا المرأة كلها، وهموم المجتمع، بل ومشاكل الإنسانية برمتها في موضوع الحجاب، وجعله أهم ركائز المجتمع المسلم، بل واعتباره الحد الفاصل بين المؤمنة التي ستذهب للجنة، والسافرة التي ستُساق للنار، وطبعا ليس أي حجاب؛ الحجاب الذي لا يغطي الوجه وحسب، بل ويغطي العقل قبله، ويلغيه، ويلغي معه دور المرأة، ويبقيها حبيسة مفاهيم الرجل ونزواته، ومكرَّســةً لخدمته.
الحجاب بالنسبة لتلك الأحزاب ليس مسألة فقهية، بل هو في حقيقة الأمر مسألة سياسية؛ إنه مجرد مدخل شكلي لفرض رؤية ذلك الحزب وأيديولوجيته وقوانينه على المجتمع، تمهيداً لفرض كامل سلطته عليه.
إنه تعبير عن قوة تواجد هذا الحزب في مجتمع ما، حتى أنه يفرض على نسائه التزام شكل معين من الحجاب يميزهن عن غيرهن من المحجبات؛ بمعنى أنه صار عنوانا لهوية المجتمع (السياسية).
في أوروبا تتعامل الجاليات المسلمة مع الحجاب بوصفه هوية، ورابطا يذكرهم بأصولهم الشرقية.. ولمجاراة الحياة الغربية دون التخلي عن التدين (الشكلي)، لجأ بعض النسوة للبوركيني، رغم أنه قد يكون أكثر إثارة من المايوه العادي.
وإذا كان بعض الإسلاميين قد اقتصر فهمهم للإسلام على حجاب المرأة، فإن مجتمعاتنا أيضا اختزلت قضايا الشرف بالحجاب؛ فمثلاً، لا يسمح الرجل للمرأة أن تخرج كاشفة رأسها، بحجة أن الدين يحرم ذلك، بينما لا يسألها إذا كانت تصلي مثلاً، وربما هو نفسه لم يؤد ركعة واحدة لله طوال حياته، علما أن الصلاة من أهم أركان الإسلام.
والحقيقة أن الدافع وراء إجبارها على الحجاب هو العرف الاجتماعي وحسب، بدليل أنه قد يتساهل إذا رآها تغطي رأسها وترتدي زيا عصريا قد يكون أكثر إغراءً مما تلبسه السافرات، فهي في نظر المجتمع محجبة، وهو في نظر نفسه انتصر على المرأة، وأخضعها لسلطانه.