(من مذكرات مسافر)
ظل مترددا في السفر عبر بوابة معبر رفح الذي أطلقوا عليه " معبر العودة " تفاؤلاً بأن يكون كذلك ، ولكنه أصبح لدى الكثيرين " معبر الهجرة " بلا عودة للوطن الحلم الذي طالما حلم به في أن يكون ذات يوم " سنغافورة " أو " هونج كونغ" العالم العربي ، لكنه بات يتحول يوماً بعد يوم الى بوابة جهنم ، بعد أن أُحكم اغلاقه , وبات حلما للمسافرين , أو كابوسا للحالمين بالسفر.. "بوابة جهنم الفلسطينية " التي يبدو أنها أشد عذاباً للمسافر من عذاب ـ " الكافر " يوم القيامة ، فلقد دفعه حظه العاثر ، الاضطرار للسفر بعد تردد ، بعد أن فرض الحصار على غزة منذ الانتخابات التشريعية عام 2006، وفوز "حماس" بالأغلبية ، وتشكيلها حكومتها " الحمساوية " وفشل تلك الحكومة في رفع الحصار , ووعودها بتوفير الكهرباء , وتخفيض سعر البزين والغاز والسولار , ثم قبولها بعد "عام الرمادة " للقبول بحكومة الوحدة الوطنية ، ومع ذلك استمر الحصار الخارجي والدمار الداخلي ، ولم يشعر الشعب بأنه مُقبل على الحبور والسرور بعد تحسن الأمور.
وبعد أن حصل على تحويلة طبية للعلاج في جمهورية مصر العربية ، لاستئصال حصوات في الكلى ، عجزت مستشفيات غزة والقدس أن تطردها أو تفتتها ، وذلك لصلابة صخرها العنيد كصلابة رأس أهل غزة والخليل ، ورغم تردده في السفر رغم المرض ، لأنه يعلم ما سيعانيه أكثر من المرض خلال السفر والعودة في معبر رفح ، وظل يؤجل السفر مفضلا عذابات المرض والألم ، على ألم السفر وعذابه ، ولكن وصلته دعوة لحضور مؤتمر لدعم القضية الفلسطينية في الجزائر، وهو ما جعله يتشجع أكثر للسفر ، خاصة وأنه كان يضع اللمسات الأخيرة على أطروحة الدكتوراة , ، بعد تحضيرات تواصلت لأربع سنوات ، وبذلك يضرب ثلاثة عصافير بحجر واحدة ، فثلاث فوائد في سفرية واحدة تستأهل السفر ومشاقه وعذابه ، ألم يقل المثل " إن في السفر سبع فوائد " , ولكنه سيكتفي بثلاث منها على الأقل.
وفي صباح اليوم الموعود للسفر , أعلن أن على المسافرين التواجد عند الفجر على بوابة المعبر ، لأخذ دور وسط الحشود الزاحفة على المعبر بالآلاف أملاً في عبور المعبر ، خلال الساعات المعلن عنها من التاسعة صباحا الى السادسة مساءً .. وصل المعبر قبل موعد إعادة فتحه بساعات، بعد أن أغلق لمدة أسبوع (المعبر كان يعمل ليوم واحد في الأسبوع ، أو ليومين أو ثلاثة في الشهر ) .
في الطريق إلى المعبر رافقه أحد الأصدقاء , وأخبره أنه يسافر لأول مرة عبر معبر رفح , في أول رحلة له خارج الوطن , والتي يبدو أنها ستكون الأخيرة عندما قرر العودة الى غزة , حتى قبل أن تقرر إدارة المعبر إعادة المسافرين , بعد أن فُقد الأمل بالعبور للجانب المصري .
كانت الحشود تموج وتهوج لمن أسعفه الحظ أو " الواسطة " بالدخول في الوقت المبكر والمقبول ، بينما كان عليه الانتظار عند البوابة الخارجية لعدة ساعات.. وأخيرا تم الدخول بعد مشادات كلامية ، ومعارك يدوية لننتقل الى البوابة الثانية ، للوقوف في طابور طويل من الحافلات وسيارات الإسعاف ، استمر أكثر لعدة ساعات أخرى ، وسط إهانات من رجال الأمن والشرطة لوقف الفوضى والازدحام.. مشهد لا يمكن وصفه بالكلمات في قصة قصيرة ، ويكفي أن تحمل كاميرا ، لنقل الصورة أكثر من الكلام ، فداخل الحافلة كان يحتشد أكثر من مائة مسافر ، كأنهم حشروا في " علبة سردين " بينما يعتلي ظهر الحافلة شنط المسافرين وفوقها أكثر من ثلاثين أو أربعين من المسافرين ، ممن استطاع أن " يتشعبط " ليجد له مكانا في سقف الحافلة ، التي بدأت تتحرك ببطء وتنوء بالحمل الثقيل ، وشاهد رجالاً ونساء " تكوموا " على أنفسهم في حاوية الحقائب في جانبي الحافلة ، في منظر إذلال تقشعر له الأبدان.
في هذه الأثناء كان يشاهد ، بعض السيارات التي تحمل مسافرين وجدوا لهم واسطة من العاملين بالمعبر ، ورغم أنه كان يحمل ورقة التحويل الطبية في يده ، لم يفلح في إقناع رجال الشرطة وضباط أمن المعبر بالدخول الى صالة المغادرة ، إلا بعد أن تظاهر بالمرض الشديد ، وجلس على اقرب " حجر " متلوياً من المغص .. استطاع بعد ذلك الالتحاق بطابور طويل عند صالة المغادرة ، بعدها حمد الله على الفرج ، وعبر الصالة ، وللحق يقال ، كان هناك سرعة كبيرة في إنجاز المعاملات في الجانب الفلسطيني بشكل جيد ، ولم يستغرق الكثير من الوقت .. بعد ذلك التحق بالحافلة التي ستقله الى الجانب المصري من المعبر ، بعد عبور هذه العشرات القليلة من الأمتار من معبر رفح الفلسطيني الى المعبر المصري في ظرف أربع ساعات ، كانت كافية لوصوله الى الجزائر من مطار القاهرة.. , وبعد هذا العذاب أعادت السلطات المصرية حافلتهم , بعد الادعاء بتعطل أجهزة الكمبيوتر .. وفي طريق عودته إلى غزة اجتاحته موجة من الهلوسة , وأخذ يحدث نفسه مثل " المهبول ", ويسأل نفسه ويقول : ألا يستحق أن نسمي معبر رفح ببوابة جهنم .؟!.