في نقد مبادرة (دولتان ، وطن واحد)

12671710_802310176571669_8610025358662011711_o
حجم الخط
 

       منذ البداية وكي لا يرد على ذهن البعض أن النقد للآخر يعني بالضرورة تلبيسه أو اتهامه أو التشنيع به ما درجت عليه بعض الأقلام والأبواق، وكي لا يُفهم النقد تجريحا أو تخوينا أو تكفيرا ما أصبح من لوازم العمل الحزبي – السياسي لدى البعض ، فإنني أكن احتراما لكل من اختلف معهم، فلكل منهم ومنا الحرية في دينه أو مذهبة أو رأيه السياسي .

       بناء عليه أسجل عددا من النقاط هنا على مبادرة أخوة اجتهدوا وبادروا وفكروا وشاوروا وشاركوا غيرهم بالسعي لوضع إطار فكري – سياسي لحل القضية الفلسطينية في ظل التراجع والانكفاء وانسداد الآفاق، فلهم مني كل الاحترام والتقدير لهذا المشوار الذي انجزوا فيه الكثير.

       ولكل هذا وبعيدا عن أسلوب الاتهام المرفوض منذ البداية، فإنه لا يعني قطعا موافقتي لهؤلاء الإخوة الكرام أصحاب مبادرة (دولتان ، وطن واحد) على الكثير مما احتوته ورقتهم الهامة ، لأن لنا رأيا، وهم من الذين يسمعون ويسعون لمصلحة هذا الوطن وهذا الشعب وهذه القضية.

       من ناحية سياسية لا يوجد حل يقوم على أسس ، سواء كان هذا الحل عادلا أو غير عادل، لا يتعامل فيها مع موازين القوى القائمة. وبناء عليه يمكن النظر للقرارات الدولية والقرارات السابقة للهيئات الدولية أو للاتفاقيات المعقودة بين الأطراف والمعترف بها كإطارمعياري يمكن الرجوع اليه عند الاختلاف، وبالتالي من الصعوبة بمكان أن تأتي أي مبادرة من الصفر حيث تفترض توافقا ثنائيا ما لن يحدث أبدا في حالتنا الفلسطينية في ظل تغوّل الاحتلال وسطوته واتجاهه نحو التطرف اليميني من جهة ودعمه لعصابات المستوطنين والمتطرفين الدينيين، ومن جهة أخرى نزوعه نحو العنصرية حتى تحول الكيان الى دولة فصل عنصري ضد السكان الاصليين داخل الحيز السياسي المسمى اليوم (اسرائيل) من فلسطين، أو في ذاك الحيز المحتل المقترح تسميته لاحقا دولة فلسطين.

       إن التغول والتطرف والعنصرية وإرهاب الاحتلال واستناده للخرافات التوراتية والأكاذيب التاريخية تسنده حقائق الضعف العربي والإقليمي والابتعاد العالمي والضعف الفلسطيني ما يستدعي منا الحذر في أي تعامل، فلسنا في موقف الندّية أو المساواة أو القدرة على الحوار أو التفاوض أو النقاش الحر مع العدو، مع المحتل، وهو يرفع يوميا البندقية في وجوهنا ويقتلنا، ويرفع يوميا معول هدم منازلنا وثقافتنا ومقدساتنا وأرضنا وشعبنا، ليشيد دولة جدار احتلالي (أبارتهايدي)، ودولة القوانين العنصرية حتى ضد مواطنيها.

       إن السند القانوني والقرارات التي استطعنا أن نفتكها بالدم عربيا وعالميا لا يمكن التنازل عنها (لاسيما أن معنا الحق والعدل والتاريخ والثقافة والمستقبل) لمجرد أن البعض المنفتح في الطرف الإسرائيلي (وهو الطرف الأضعف) قد أبدى تجاهنا نوايا طيبة، أو لمجرد أنه لوّح لنا ببعض التسهيلات أو التساهلات اللفظية التي لا تصل لحد الاعتراف التاريخي بالظلم العظيم الواقع على فلسطين وعلى الشعب الفلسطيني عبر النكبة عام 1948 التي يجب أن تكون البداية الحقة في أي عملية تصالح حقيقي إن كان هناك نوايا صادقة وسعي أكيد للحل.

      في فندق "الرتنو" في رام الله أواخر شهر آب/أغسطس الحالي للعام 2016 طرح عدد من الاخوة الكرام مبادرتهم المسماة (دولتان.وطن واحد) وعليها نقول:

  • الفكرة  التي تقول (دولتان، وطن واحد) تقدم باعتقادي تنازلات مجانية أو مسبقة في ظل اختلال خطير في موازين القوى .
  • المبادرة لا تشكل أرضية حقيقية للتبني من قبل السياسيين أو الاحزاب أو حتى المجتمع الاسرائيلي الذي يتجه بسرعة الضوء نحو اليمين الفاشي.
  • السياق التاريخي الثقافي بالمبادرة لا يتسق مع الرواية العربية الفلسطينية، ولا مع حقائق علم الآثار(حتى عند علماء الآثار الاسرائيليين) أو الحقائق التاريخية الجديدة.
  • مفهوم (الشعب) لليهود لا يتفق تاريخيا بأن (اليهود) كأتباع ديانة كانوا يشكلون (شعبا)، ما يتناقض كليا مع مفهوم الدولة والمواطنة والشعب.
  • أن كان المقصود بـ(الشعب) اليهودي هنا سكان فلسطين من أتباع الديانة اليهودية الذين بلوروا حديثا هوية (اسرائيل) منذ العام 1948 فهذا شأن آخر ونقاشه يختلف كليا عن الامتداد الفاسد تاريخيا و(دينيا) ضمن ادعاءات (نتياهو) واليمين (أننا هنا منذ 4000 عام) فمن أنت! (حيث لا دليل على علاقة الإسرائيليين اليوم تاريخيا وآثاريا بتلك القبيلة العربية الاسرائيلية المنقرضة) والديانة لا تؤسس لشعب في أي دولة بالعالم.
  • لا دلالة بالمطلق على أن ذوي القوميات المتعددة الذي قطنوا فلسطين وهم اليوم تحت مسمى "الاسرائيليين اليهود" (الاسرائيليون نسبة فقط للدولة الحالية دون أي امتداد قبلي / قومي مع بني إسرائيل العرب القدماء) لا دلالة على أن انتماءهم  الديني انعكس في السياق الوراثي – القبلي – القومي مطلقا.
  •  نقطة (المساواة في الأرض المشتركة!) كما تقول الورقة/المبادرة تفترض ولو ضمنيا أن الأرض هي ثقافيا وتاريخيا للطرفين؟! ما هو غير صحيح، لذا فلا مساواة، إذ لكل روايته المختلفة كليا،وهذه النقطة أي (المساواة في الأرض المشتركة!) تنازل مجاني مسبق للإسرائيليين ان لهم "الحق" في هذه الأرض وإنه كان لهم وطن فيها قديما، ما لم نأخذ مثله سياسيا (أي أن لنا أرض ووطن) من أي طرف إسرائيلي فاعل حتى الآن.
  • الوصف الأكثر دقة هو "الاسرائيليين اليهود" في مقابل وجود "اسرائيليين عرب أو الفلسطينيين" بمعنى المواطنين الأصليين لهذه الأرض، ومن ارض فلسطين التي أصبحت سياسيا منذ العام 1948 تحت اسم (إسرائيل)، اذن الحديث يتم مع (الاسرائيليين اليهود) أي أولئك القاطنين لأرضنا ممن يفترضون هم أنهم شعب أو قومية مالم يكونوه قديما مطلقا، رغم أنهم شكلوا ذلك حديثا نعم وهو فقط ضمن دولة (إسرائيل) التي تضم المواطنين منهم، والمواطنين من السكان الأصليين أي منّا نحن.
  • تقول الورقة أن لكل من الدولتين (الحق في إقرار قوانين الهجرة إليها) وكذلك (المواطنة)، وأيضا هذا يضع الفرضية أن لكل يهودي في العالم مهما كانت قوميته أو اثنيته أو أصله "الحق" في فلسطين، ما هو فاسد الحقيقة التاريخية والقانونية، وكان المفترض الوضوح الأكثر في ذلك.
  • وفي نقطة (حق الإقامة) في كل فلسطين تصريح مسبق ومحدد للطرف القوي وعلى رأسهم المستوطنين أن يبقوا في الضفة الغربية التي لم يتم الاعتراف بها اسرائيليا حتى اليوم أنها (أرض محتلة) قطعيا.

 

  • يتم التشريع بشكل متكرر لوجود المستوطنين الباطل على أرض الضفة الغربية من فلسطين، فبالإضافة لحقوقهم المختلفة بالعمل والإقامة حسب الورقة، هم (أقلية يهودية في فلسطين) كما ينص البند الثامن فإن فيه أيضا إغفال واضح لحقيقة أن هذه الأرض محتلة وأن خروجهم هو الحقيقة . وفي المقابل عندما يتم الحديث عن حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى أراضيهم تقرر المبادرة (هذا الحق يطبق ضمن مراحل متفق عليها سلفا) ما لا يماثله مطلقا أو يساويه طريقة التعامل مع المهاجرين اليهود القادمين للبلاد من قوميات عدة، والذين أعطت المبادرة لدولتهم الحق في تطبيق قانونها (قانون العودة كما تسميه اسرائيل منذ الخمسينات)، وما ينسف الأساس للحل الذي يجب أن يحدد سقفا لعدد المهاجرين إن حصل بين الطرفين كمساواة مثلا.
  • في النقطة المتعلقة (بإعادة املاك اليهود المهاجرين وتمكينهم وتعويضهم ...) (في الدول العربية) في البند التاسع، لا يتفق مطلقا مع الحقائق التاريخية، ولا يتفق في صياغته من حيث ضرورة صيغة (الإلزام) التي وجب أن تكون للفلسطينيين في أراضيهم وهم الطرف الضعيف.

 

  • في النص المتعلق بالقدس بورقة المبادرة وفي ظل المنظمات الصهيونية المتطرفة التي تسعى لتدمير المسجد الأقصى (المسجد الأقصى مساحته 144 دونم التي تشمل الباحات والمباني أي كل مادار حوله السور) لا وضوح إذ تقول المبادرة (حرية الوصول دون معيقات لكافة المؤمنين من مختلف الجنسيات) ما يفترض الاعتراف ضمنيا بأحقية ما بما يسمى افتراء على التاريخ الحقيقي (جبل الهيكل) الذي لم يثبت حتى اليوم صدقيّة هذه الادعاءات أو حقيقتها مطلقا ، عدا عن وجود القرار العربي وفي اليونسكو الواضح حول المسجد الاقصى المبارك، وفي النص المذكور نحن نعطي الامكانية للقوى اليهودية لممارسة طقوسها الدينية داخل الاقصى، رغم أن حائط البراق (المبكى) تاريخيا وبالتحكيم منذ العام 1929 هو جزء من الاوقاف الاسلامية عبر قرار واضح.
  • (يتمتع العرب الفلسطينيون من مواطني "اسرائيل" بحقوق الاقلية القومية وبالمساواة المدنية و تمثيل مناسب في مؤسسات الحكم في "اسرائيل"...) لا أظن أن هذا النص يشكل توصيفا حقيقيا، إذ أن هؤلاء لا يشكلون (أقلية قومية) (مفهوم الأقلية القومية الإقصائي برز منذ وعد بلفور أي حينما كان الفلسطينيون يشكلون الأغلبية العظمى في فلسطين) وإنما هم أصحاب الأرض أو السكان الأصليين، وهم مواطنون يجب أن يكونوا في دولة لكل مواطنيها سواء المواطنين الأصليين أو أولئك من ذوي القوميات المتعددة وبدين واحد الذين أصبحوا مواطنين تحت اسم الاسرائيليين اليهود.

       المشكلة العربية الفلسطينية-الاسرائيلية وهي قضيتنا الرئيسة ليست دينية مطلقا وإلا لتم تأبيد الصراع ، وإنما هي مشكلة احتلال استيطاني غاشم تم ضمن مصالح غربية أوجدت منطقة عازلة وأوجدت فيها سكان وتم صناعة تاريخ قديم لهم، وتأسس لهم قانونيا وسياسيا منذ العام 1917 ثم 1922 ثم 1948 ضمن دولة في فلسطين في ظل الاهمال والإقصاء المقصود والفظيع لأصحاب الأرض.

        ملخص كل ما سبق أنني بهذه المبادرة أعطي موافقة للطرف المحتل وصك براءة سياسية عن كل اعتداءاته واحتلاله وافتكاكه لبلادنا فلسطين من أيدي مواطنيها، و فوق كل ذلك أعطيه مجانا اعترافا ثقافيا وتاريخيا بروايته الكاذبة حول (الشعب) و(الوطن) و(الأرض) و(القومية) و(القدس) ووجود المستوطنين، وهي المفاهيم التي لم تثبت أبدا إلا في اوهام اليمين الاسرائيلي فقط دونا عن سائر خلق الله.

المنطق الحقيقي للحل هو بالمراكمة على حراكنا السياسي المقرون بالفعل الميداني الذي فتح لنا الآفاق وبفكرة حركة فتح الأصيلة اللاحقة على الدولتين وهي الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين لكل الأديان، وعليه فإن أي حديث مغاير أو مكمل يجب أن يبدأ من القرار 181 أي قرار التقسيم الذي تم لأرض فلسطين وليس لأرض "اسرائيل" قط ، ما يجعل من التوصيف الوارد في المبادرة (فلسطين/أرض فلسطين) توصيفا فاسدا و مجحفا تاريخيا وسياسيا بل وقانونيا، وفي الرواية الحقيقية لأنها أرض فلسطين فقط، مهما تسمت من قِبَل الدولة القائمة عليها اليوم.