شفيق التلولي " حلم في فصل الرماد "

2
حجم الخط

أخاف عليك من حرارة الشمس أن تلسع وجهك الجميل، وتُلون شعرك الأشقر الناعم الكثيف، وتدمع هذه العيون التي تطاردني كل ذهاب وإياب، دعك من الإنتظار لن أمر بك اليوم، والآن سأغلق نافذتي الشرقية وأغادر، فكما ترى الشمس لاهبة، وأنت كذلك أرجوك لا تدعها تضرب رأسك.

 

 

كنت أرهف السمع إلى خشخشة أساورها وايقاع أنفاسها والصمت يتملكني، فاجأني هذا الهاتف، كيف تسللت فتاتي إلي من ثقوب السماعة؛ لتصطاد قلبي بصوتها الدافئ؟! لم أكن لأصدق بأن الأذن تعشق إلا عندما طرق أذني سهم هذا العشق، كما أصاب عيني التي ما انفكت عن ملاحقتها.

 

 

كان عليّ أن أخرج عن صمتي؛ لأستبق أشعة الشمس التي تنفذ إليها قبيل إغلاقها سماعة الهاتف، محاولاً تبرير نظراتي التي تركض خلف خلخالها الفضي واقتفاء رائحة عطرها الفاقع وأحمر شفاهها الصارخ وغُرة شعرها المنساب من تحت شالها المطرز.

 

 

أتمنى أن أكون مخطئة كما تقول غير أنني متأكدة من أنك تراوغ بعدما فاجأتك بإتصالي، ولعلك تتساءل من أين أتيت برقم الهاتف؟ لم أقل لك -من العصفورة- كما يقولون ولكن لما كنت أختلس بعض النظرات إليك لمحت الرقم في الخلفية على يافطة مكتبك.

 

 

أي امرأة تلك التي تحول بيني وبين الكلام؟! حتى السؤال الذي أردت أن أشق به صمتي وأصحح لعثمتي باغتتني به، ماذا علي أن أفعل؟ ماذا أقول لها قبل أن تُنهي المكالمة؟ وأنا الذي فعلاً اعتدت أن أراها يومياً، وأغازلها بعينيّ، بل أكاد أجزم بأنني وقعت في هواها- من أول نظرة- كما يحدث للهواة والعشاق.

 

 

مرة أخرى تهزم صمتي، ربما تقول كيف عرفت بأنك تنتظرني تحت قرص الشمس؟ أنا من يعرف ماذا تعني الشمس؟ لأنني وُلدت تحت عمود الشمس وإلتقطتني القابلة من رأسي الصغير بشال أمي حتى لا تحرق أشعتها دموعي يوم أطلقت صرخة الحياة وقتئذٍ تلقيت ضربة شمس، ولم أكن أعرف بأن ما ألم بي من حُمى هي حمحمة لبوة ستتسلق برج الأسد.

 

 

أغلقت سماعة الهاتف لتفتح في قلبي نافذة مشرعة على حب لم أكن أتوقع بأن يجتاحني بعدما تمرد قلبي على الهوا وصام عن عشق النساء كلها، خرجت مسرعا أبحث عن نافذتها بين نوافذ الحي، لم أفلح في التعرف إلى تلك النافذة إلا بعدما أشاحت لي بشالها الأرجواني ذات انتظار على ناصية المرور حسب توقيت لقاء كل حب.

 

 

عند أول مرور بعد الهاتف؛ ألقت بجانبي رسالة كتبت في مطلعها إلى السحر الذي أسرني وسافر بي بعيداً إلى المدى، إليك أنت أوقع رسالتي الأولى بقبلة موسومة بأحمر الشفاه الذي يليق بك، أما أنا فهمست لها لا تنسي الإتصال بي على رقم هاتفي المحمول، سألقيه أمامك عند الإياب وفي انتظار أن نتهاتف لتحديد موعد نلتقي به.

 

 

ولما التقينا؛ تشابكت الأيادي، أغمضنا المقل، اختلطت الأنفاس واشتبكت القبل، وفي اللقاء الثاني عرفت بأن اسمها "منى"، هي كانت تحفظ اسمي قبل هاتف موقعة الشمس؛ إذ افتتحت مكالمتها بأغنية "فيروز" بصوتها الملائكي"أنا وشادي".

 

 

منذ ذلك الوقت أشعلت نيراني من تحت رماد الثلج وبت "شادي" المتيم "بمنى" لا أعرف إلى أين تأخذني شمس حبها التي أدور في مدارها كل يوم، تُسلمني مع أمواج البحر للقمر وعد النجوم حتى مطلع الفجر، ولا أدري متى سنلعب على الثلج.

 

 

في عيد الحب الأول صار الشبل أسداً، وورث العرش وفي العيد الثاني صاح الأب: "مات الولد برصاصة" وصعد "محمد الدرة" وثالث عيد كان ليلة سقوط بغداد، وعيد يسلم عيد بعدما ذبل الجوري الغزي واغتيل الياسمين الدمشقي، واختفت بائعة الزنبق من ساحة الميسات؛ لم يبق ورود في عيد الحب أهديها، تشظى الحب وانكسر القلب وحطت غربة الروح.

 

 

بعد زمان "اشتعل الرأس شيبا"، كان عليها أن تُلون ما شاب منه وأن تُشعل ما ألم به من رماد؛ باعدت بيننا الأيام في رحلة تخاريف الربيع لا نحفظ من قصة الأمس غير خارطة الطريق التي شقت القلب وقسمت ظهر الحكاية حكاية جابت مدن الشوق تحت وطيس الشمس.

 

 

سحنا في الأرض ولم تتحقق نبوءة الجنة، وظل الحب في مهب الريح.