انتهت القوى والأحزاب من تشكيل قوائمها للانتخابات المحلية، لكن الرأي العام المثقل بوطأة الإحباط من مجمل الأداء الفلسطيني تلقى جرعة جديدة في طبيعة القوائم والتحالفات التي صنعتها الفصائل مع أشد البنى الاجتماعية تخلفا عندما عادت لإحياء العشائرية وهو الشكل الذي طغى على تلك القوائم التي تم اختيار معظمها بعناية من أبناء العائلات والحمائل ولم يقتصر الأمر على حزب بعينه بل ذهبت بهذا الاتجاه حركتا فتح وحماس وحتى اليسار صاحب النزعة التقدمية.
لقد تشكلت الحركة الوطنية الفلسطينية من أحزاب تجاوزت في مفاهيمها ما كان سائدا في ثلاثينيات القرن الماضي وهي مرحلة بروز الأحزاب الفلسطينية الأولى التي كانت تتبع لعائلات معينة، وقد أدى ما آلت إليه الصراعات في النصف الأول من القرن العشرين بالإضافة لعوامل إقليمية ودولية إلى تمكين وسيطرة اليهود على فلسطين وضياع فلسطين لغياب أحزاب حديثة قادرة على التعاطي مع القضايا الوطنية الكبرى.
لدى تشكل الحركة الوطنية في ستينيات القرن الماضي كانت ثقافة الأحزاب تتجاوز ما كان سابقا من بنى اجتماعية وساعدها في ذلك تشتت المجتمع الفلسطيني في أكثر من تجمع فأعادت بناء نفسها وفقا لاعتبارات وطنية وليست اعتبارات القبيلة التي كانت سائدة والمناطقية والجهوية، ولم يعد سؤال أصول القيادة ومنطقة سكنها أو الإرث العائلي مهما في تحديدها وبالمصادفة كان الجيل الأول لحركة فتح بمعظمه من قطاع غزة ولم يكن ذلك مدعاة لأية حساسية وسط حركة وطنية ناهضة وكذلك لدى بقية الأحزاب.
في قوائم الانتخابات التي ستحدث في الثامن من تشرين الأول عادت العشائرية تطل برأسها أو بالأصح أعادت الفصائل تلك النزعة بعد أن كانت قد تجاوزتها إلى حد ما أثناء الصعود وتحقيق الإنجازات، لذا يمكن فهم العودة على أنها ارتداد اجتماعي ووطني يترافق مع مرحلة العجز التي تمر بها الحركة الوطنية والأحزاب القائمة، ففي الفترة التي كانت فيها الأحزاب قوية كان النظام العشائري يتراجع لصالحها أو يحاول التقرب منها لكن مرحلة الفشل والانهيار تعود الفصائل لتستمد قوتها من ذلك النظام وفي هذا ما يعكس اعتراف القوى بضعفها دون الإعلان عن ذلك.
هذا هو الأخطر فيما يحدث، فالأحزاب السياسية على النقيض تماما للبنى التقليدية للمجتمعات فحيث يكون الحزب السياسي وتكون المؤسسات الحديثة لا تكون العشيرة، فالمفاهيم هنا متناقضة إلى أبعد حدود، لأن الأحزاب السياسية تشكلت على أنقاض القديم وهي وليدة مجتمعات حديثة وابنة الحالة المدنية التي تحتكم للقانون وتتجاوز في تركيبها مرحلة البداوة وهي مرحلة اجتماعية مرت بها معظم المجتمعات في البدايات وتلك لها نظامها وقانونها وثقافتها، وعندما تطورت المجتمعات وأصبحت أكثر تعقيدا وشيدت المدن كان المجتمع قد انتقل إلى مرحلة مختلفة استدعت تنظيم نفسه بنظام مختلف يتلاءم مع هذا التطور وإلا فإنه يحكم على نفسه بالموت والجمود ومن هنا كانت الأحزاب هي التعبير الحقيقي عن ذلك التطور، أحزاب أحدثت قطعا مع مرحلة البداوة وأصبح النظام القبلي جزءا من التراث للاعتزاز به لا السكن فيه.
في مقابلة مهمة مع الرئيس الأميركي باراك أوباما نشرت قبل خمسة أشهر كان يتحدث عن مجريات ما يحدث في الدول العربية من انهيار وكان يعطي إجابة عالم اجتماع حقيقي وليس كرئيس عندما قال، "إن أشد القوى تدميرا في الشرق الأوسط هي ثقافة القبيلة"، كان الرئيس الأميركي يتحدث عن مرحلة تاريخية اعتبرت الأصعب في تاريخ الشعوب وهي مرحلة الصراعات البدائية التي لم تتجاوزها تلك الشعوب إلا بعد أن دفعت ضريبتها المكلفة وبعد أن قطعت شوطا في التطور، بكل أسف ما زالت المنطقة العربية تحكم على نفسها بالثبات والإعجاب بتلك المرحلة التي كرستها عدة عوامل اجتماعية وثقافية وأيديولوجية إلى حد ما كرست ثقافة العداء والإقصاء والكراهية التي أنتجها الوعي القبلي.
هل الخلل في المجتمع الفلسطيني أم في الأحزاب؟ قد يقول قائل ان المجتمع الفلسطيني لم يتجاوز العائلة والحمولة وبالتالي فإن الأحزاب تمثل ما هو قائم، وللرد على ذلك قد حدث منذ عقود عندما غابت المناطقية والجهوية والعائلية عن تركيب الحركة الوطنية وأحزابها بل وتشكلت على أسس بعيدة عن المعيار الإثني والمذهبي والقومي لتجد كثيرين في الحركة الوطنية من المسيحيين وحتى من غير الفلسطينيين الذين انضموا للأحزاب.
لا يمكن أن نطلق على ما يحدث إلا أنه مرحلة ارتداد كبيرة وخطيرة عندما يستقوي الحزب السياسي بالعشيرة ومع الزمن يصبح خاضعا لها فإنه يتحول إلى أداة لتكريس مفاهيمها ويجد نفسه أمام تضارب مفاهيمي وقيمي لندخل في حالة اضطراب هي المشهد الأكثر وضوحا فيما يحدث في الحالة العربية، فلا يمكن التوفيق بين المسألتين إلا في حالة النظم الملكية القديمة أو النظم الديكتاتورية التي تلغي الأحزاب وتستبدلها بتلك البنى الاجتماعية وفي ذلك وصفة لتدمير المجتمع حين يصبح الصراع الاجتماعي والسياسي مسلحا بثقافة القبيلة.
واضح أن القوى ترتكب خطأ مدمرا حين تعود بنا للوراء بعدما قطعنا شوطا في بناء نظام سياسي كان يمكن أن يقلع نحو الحداثة، تعتقد تلك القوى أن التفاهم مع العشائر المتفرقة أسهل لها من التفاهم مع قوى سياسية منظمة، إنها تنكشف هكذا بعد التجربة لكنها تخطئ لأن حزبا سياسيا منظما وإن كان ندا يمكن الاتفاق معه مرة واحدة ولكن تلك القوى لا تريد الشراكة بل أن تبقى مسيطرة، معتقدة أنه أسهل لها السيطرة على مجتمع أكثر تخلفا منها لمجتمع ينظم نفسه بقوى سياسية وواضح أن القوى المسيطرة في غزة والضفة لا تريد أية قوى سياسية أن تنافسها ولا قوى تشاركها السلطة.
قبل أربعة أشهر تقدمت مجموعة من الشخصيات الوطنية بطلب عقد مؤتمر "وطنيون لإنهاء الانقسام" فوجئنا بالأمن يمنع عقده وعندما تم السؤال تلقينا إجابة ان الرفض جاء لأسباب اعتقاد حركة حماس أنهم سيشكلون حزبا سياسيا ...لا يريدون أحدا غيرهم في غزة وكأن هناك جريمة في تشكيل أحزاب جديدة .. أما في الضفة قبل أسابيع دعا مركز مسارات رئيس الوزراء السابق سلام فياض لإلقاء مداخلة يتحدث فيها عن "ما العمل"؟ فقدم الرجل برنامجه، بعدها فوجئنا أن حركة فتح تشن هجوما حادا على الرجل ..فهم مثل حركة حماس لا يريدون قوى سياسية جديدة .. لكنهم ينزلقون للعشائر فأية ثقافة سياسية تلك وأي مجتمع وأي تعليم وأية صحة وأية إدارة شعب يمكن أن نرى في ظل تلك الثقافة.؟!