سماح خليفة " رواية المهزلة لمحمد جبعيتي، والمسكوت عنه في المجتمع الفلسطيني "

thumbgen (1)
حجم الخط

كل بني آدم على وجه الأرض يمتلك وجهين على الأقل، وجه يقابل به العالم الخارجي ووجه يختلي به مع ذاته، قد يقابل العالم الخارجي بوجه ملائكي وقد يختلي مع ذاته بوجه طفل أو شاب، كهل، رجل دين، أنثى، ذكر، وحش، حيوان...الخ، وقد يكون العكس، ومن يقل من بني البشر أنه لا يمتلك إلا وجه واحد؛ مخطئ بلا أدنى شك، فهو لم يجلس مع ذاته ولم يواجهها ليكتشف أي وجه آخر يمتلك، وسبب هذه الوجوه هو مرآة النفس البشرية التي ننظر فيها، فهي متسخة غير نظيفة مكسرة مهشمة، ولم يقم أي منا بخطوة جريئة لتنظيف مرآته أو إصلاحها فهو لا يجرؤ على ذلك؛ لأنه ربما يتأذى ونحن ضعفاء لا نحتمل أي أذى أو خسارة.

محمد جبعيتي في روايته" المهزلة: وجوه رام الله الغريبة" الصادرة عن المكتبة الشعبية ـ ناشرون، عام 2016م، والتي تقع  في 144ص، ينقل إلينا الجانب المظلم من مدينة رام الله بطريقة قصصية جريئة، يكشف عن بعض وجوه رام الله الغريبة الخفية وليس جميعها، فهناك وجوه كثيرة لم يتمكن منها بعد. الوجوه الغريبة والخفية التي يكشف عنها الجبعيتي في روايته تتمثل بقوّة لدى زكي السيلواني وسلمى حزازين.

استخدم الكاتب عنصر التشويق في تنقله بين أحداث روايته التي كانت عبارة عن روايتين في قلب رواية واحدة؛ قصة الحب الفطرية الطبيعية التي نشأت بين ميرا ولؤي، وقصة الحب الخارجة عن الفطرة والطبيعة البشرية والتي نشأت بين سلمى ودانا، فكان ينتقل من أحداث قصته الأولى إلى استكمال أحداث قصته الثانية تاركا القارئ يتقلب على جمر الشوق، يريد أن يعرف ماذا حصل مع أبطال القصة الذين قفز عنهم الكاتب إلى أبطال جدد، وكأنه جعل القارئ أمام مسلسل درامي ينتقل من حلقة إلى حلقة، وفي كل حلقة يشوّق القارئ أكثر لاستكمال الحلقة القادمة.

ميرا هي البنت الوحيدة لحنا يعقوب (ص14)، ذلك الرجل المسيحي الذي وُلد في عائلة برجوازية حافظت عبر تاريخها على تعاليم الجد التي انتقلت بالوراثة من الآباء إلى الأبناء(ص8) وهو ابن إبراهيم يعقوب الذي توفي إثر أزمة بعد نكسة 1967م، مما أدى إلى انتقال الميراث إلى أبنائه ثم تولى أعلى المناصب السياسية بعد قيام السلطة الوطنية بعد اتفاق أوسلو عام 1993م، حنا خلاف إخوته لم يسع خلف المنصب والثروة ولم يكن شغفه السياسة والمال، كان عاشقًا للمرأة وعلاقته بالنساء قائمة على ثلاث قواعد: الصدق، الاحترام المتبادل، الاختيار الحر (ص9)، أنجب ميرا بعد سنوات من الانتظار وزيارات أمها الكثيرة للأطباء (ص14)، تعرضت لحادث وهي في السادسة من عمرها لتنجو بأعجوبة مما يزيد من حب والدها لها، فتنشأ بينهما مشاعر حب عميقة وتضاعف هذا التعلق بعد أن ماتت أمها؛ ليجد حياته بائسة ولا قيمة لها بعيدًا عن ابنته. اختارت ميرا طريقها بدراسة الإخراج المسرحي في تونس وبعد عودتها إلى فلسطين كرست جهدها في مسرح الأطفال لاعتقادها أن الأطفال أكثر فئة متضررة في فلسطين بسبب الاحتلال (ص15(.

تعرفت ميرا بلؤي شاب وسيم مثقف جذاب جريء ابن زكي السيلواني رجل فاسد إقطاعي ومالك أراضي تحول إلى إقطاعي حزبي بكل الامتيازات والأموال والنفوذ السلطوي، ترقّى في السلم الحزبي بسرعة رهيبة إلى أن دخل مبنى رئاسة الوزارة استغل نفوذه وسلطته، وارتكب الكثير من الجرائم للحفاظ على سلطته ونفوذه، وكانت هذه الأسباب كفيلة أن تفرق بين ميرا ولؤي، لولا أن ميرا استدركت الأمر واستطاعت أن تفصل في حكمها بين لؤي وعائلته وسلسلة الجرائم التي ارتكبوها (ص16).

نشأت بين ميرا ولؤي علاقة حب قوية، علم بها والدها وتقبل الأمر برحابة صدر رغم المخاوف التي تحفّ تلك العلاقة، بينما زكي السيلواني عندما علم غضب غضبا شديدًا (ص17) وكرّس جهده للفصل بينهما وإبعاد ميرا المسيحية عن ابنه المسلم، ومنذ تلك اللحظة بدأت الأقنعة تتساقط شيئًا فشيئًا عن زكي السيلواني وأفراد عائلته لتظهر الوجوه المختبئة خلفها "نحن عائلة مقرفة نتظاهر بكل ما ليس فينا حتى نحافظ على "البرستيج" والمال والنفوذ" (ص71(.

وأما قناع زكي السيلواني فقد سقط تمامًا، وظهر وجهه الآخر البشع عندما خرج ولده عن مسار والده، ورفض متابعة المشروع الذي سيلحق الضرر بمدينة رام الله القديمة، إلا أنه سيجلب أموالا طائلة، وشعر والده حينها أن هناك خطر يهدد تاريخه وسلطته الكاذبة، فما أن عاد لؤي وميرا من شهر العسل الذي قضياه في باريس، ليجد والده قد سيطر على كل أملاك ابنه بالتزوير وشراء الضمائر، حتى جعل كل من حوله يخونه، من أكبر موظف إلى أصغر موظف حتى حراس الأمن وعمال النظافة، ولم يكتفي بذلك بل ألحق الضرر بحنّا وأغلق مجلة عشتار بالشمع الأحمر(ص82).

وتنتهي بشاعة زكي السيلواني بمقتل ميرا زوجة ابنه بكل دم بارد، غير مكترث لمشاعر ولده "أنا من مستشفى رام الله زوجتك ميرا وقعت ضحية حادث، وهي الآن في غرفة العمليات وحالتها حرجة" (ص94).

سلمى ودانا؛ دانا فتاة قروية في التاسعة عشرة من عمرها، ابنة عائلة فقيرة من جنوب الضفة الغربية، أتت للدراسة في جامعة بيرزيت (ص31)، سلمى حزازين امرأة شاذة جنسيًا، تستغل فتيات قاصرات محتاجات للمال والمساعدة لممارسة نزواتها بصورة ساديّة وعنفيّة (ص44)، تُعرف في مجتمع رام الله بأنها صحفية جريئة وسيدة مجتمع محترمة، تنشأ بين الطرفين قصة حب واحترام كما اعتقد الطرفان لا تلبث أن تنتهي، عندما تشعر دانا بميلها نحو الرجال وما أن تخبر سلمى حتى تخلع قناعها المزيف وتكشف عن وجهها الغريب؛  فتبتز دانا بصور وهمية وتعاملها بوحشية مغتصبة إياها، تاركة إياها تنزف حتى الموت دون أن يرف لها جفن (ص112).

أبو مسدد يُظهر شخصية الحزبي المتعصب للدولة لا يعرف التغيير ولا التجديد يستغل الدين ورجال الدين للدفاع عن مصالحه حسب الحاجة لذلك (ص28.(

بعد موت ميرا يظهر وفاء لؤي لها من خلال الرسائل التي اختتم بها روايته ص114-144.

الوجوه التي أشار إليها الكاتب وخصها برام الله، أليست مشتركة في جميع المدن بل في كل بقاع الأرض؟!... أظن الكاتب خص رام الله تحديدا لعلاقته القوية بها، أو كعنصر تشويق لقراءة الرواية.

تعمُّق الكاتب في وصف تلك الوجوه الغربية في رام الله تدعونا للتساؤل: هل عايش الكاتب تلك الوجوه؟ وإن كان قرأ أو استمع لشهادات حية، فلا أظنها كافية لتصور المشاهد بهذا الشكل الدّقيق، إذن فالإبداع في التصوير يعود لمخيلة الكاتب التصويرية الفذة المبدعة.

"لا أبطال وسط المهزلة" (ص108) ،بل خسائر بشرية ومادية ومعنوية، ميرا تصمد وتدافع عن حقها في الحياة والحب وحرية الاختيار، وتكون ضريبة ذلك هو الموت.

لؤي يحارب الفساد، ويستمع إلى صوت ضميره الحي للإبقاء على ما تبقى من براءة رام الله وملامحها الصادقة، يتمسك بحب ميرا وبحريته في الحياة والاختيار، ضريبة ذلك خسارة كل أملاكه وخسارة حب حياته.

دانا دفعت ثمن الفقر والجهل وعدم الوعي خسارة ذاتها، وحقها في الحياة النظيفة وحرية الاختيار لشريك حياتها، بل واغتُصبت واعتُدي عليها.

في النهاية، تنتصر الأقنعة والزيف والاستغلال، سلمى تبقى في صورة الصحفية النظيفة سيدة المجتمع، وتمارس قذاراتها وابتزازها لفتيات أخريات. زكي السيلواني يبقى صاحب السلطة والنفوذ بكل غطرسته وجبروته. هذه هي حياتنا هذا هو واقعنا، مهزلة بكل معنى الكلمة، والمهزلة الكبرى إذا ادّعينا البطولة وسط هذه الوجوه الغريبة.