«وتسأل: ما معنى كلمة وطن؟ سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز والسماء الأولى. وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات، وتضيق بنا!». (محمود درويش).
ونسأل، ما الوطن؟ هل هو قطعة الأرض التي ولد أسلافنا فيها؟ أم هو البلد الذي قررنا نحن أن نعيش فيه؟ هل هو الماضي والأجداد والتراث، والذي حُدد في بقعة واحدة بالذات؟ أم هو أي أرض بوسعها تحقيق أحلامنا وصون كرامتنا؟ هل هو مدارج الطفولة، والصبا، وذكرى أول حصة في الجغرافيا، وأول قصة حب فاشلة، وأول خيبة أمل، وأول أغنية رددناها؟ أم هو حيث يمكننا بناء المستقبل بلا خوف؟ هل حدوده هي فقط تلك التي رسمها السياسيون؟ أم هي حدود الحلم؟ وهل من مبرر للموت دفاعا عن حدود سياسية، لا تختلف طبوغرافيا عن الأرض المجاورة؟ أم هو موت مجاني؟ هل الوطن حيث يقيم الناس الذين يتشاركون في اللغة والعرق والمصير، حتى لو سفكوا دم بعضهم بعضا؟ أم هو حيث التعددية والعيش المشترك الآمن؟ هل الدفاع عن الأوطان شرف حقيقي، أم هو جزء من الصراع الأزلي على المُلكية؟ هل الوطن مجتمع متخيَّل، أم حقيقة موضوعية؟ هل الوطن حالة شوفينية عنصرية بالضرورة، أم حالة إنسانية منفتحة؟
لنعد قليلا إلى الوراء، قبل أن توجَد الحدود والأوطان.. في ذلك الزمن السحيق، وفي أثناء تطور مسارها الحضاري، وبعد طيّها صفحة المشاع، عرفت البشرية المُلْكية، ثم اختارت كل مجموعة قطعة أرض وسورتها، ثم أعلت من شأنها بالشعارات، والرموز.
وفي نفس المسار، واصل البشر بحثهم عن معنى الحياة، وعن جدواها؛ فاخترعوا الأسطورة؛ إما ليبتلعوا ويستسيغوا بعض الحقائق المريرة، أو لينجوا بأنفسهم من ظواهر تصوروها مهلكة، أو ليعيشوا في غواية أحلام وتصورات تحقق لهم جملة من الأهداف غير المرئية، بحيث تؤدي غرضها في النهاية؛ وهو منحهم قيمة ومعنى لوجودهم وممارساتهم. بعض تلك الأساطير تحولت مع الوقت إلى ما يشبه الحقيقة.
هل الوطن مثال على الأسطورة والحالة المتخيلة؟ أوجده الإنسان في ظرف تاريخي معين، ثم تعامل معه على أنه حقيقة لا تقبل الجدال.. الكاتب «عبد المجيد الشهاوي» يقول: «إذا كانت الأسطورة تُبنى من مفردات حقيقية؛ فإن للوطن مفرداته الحقيقية الكثيرة (أرض، شعب، تاريخ، ثقافة، نظام سياسي واجتماعي..) أي أنه يمتلك الكثير من الخصائص التي تكفي لكي تجعله مميزاً ومتمايزاً عن بقية الأوطان الأخرى».
وهذا يجعل من كل وطن مختلفا من وجهة نظر أبنائه عن بقية الأوطان؛ فالوطن، حسب الشهاوي، يشبه أبناءه؛ له خصائصه الفردية المتميزة، ولا يكون الوطن وطناً من دونها، مثل معطيات الجغرافيا والتاريخ والبشر.
ولا يوجد وطن دون قطعة أرض مستقرة المعالم، وشعب يسكنها على مدار زمن طويل بما يكفي لكي يصنع له تاريخاً وثقافة خاصة به ومميزة له.
ويؤكد «الشهاوي» أنه «رغم حقائق الأرض والناس والتاريخ، تبقى أسطورة الوطن أكبر من مجموع كل ذلك بكثير. وهنا يأتي دور الإنسان/ المواطن/ الخالق للوطن، والمحب له. هذا الإنسان هو الذي حدد بجهده ودمائه حدود قطعة الأرض التي عمّرها، وسطّر تاريخها، ولا يزال يطورها وينميها لنفسه، ولأبنائه، للعيش في كنفها وخيرها في المستقبل.
ولولا هذا الإنسان، لظلت الأرض أرضاً، بلا تاريخ وبلا هوية».
وهذا يعني أن جوهر العلاقة بين الإنسان ووطنه مصلحية مادية، لكنها مغلفة بأسطورة المجد والعشق والوطنية.
في أستراليا مزارع خاصة مساحتها أكبر من مساحة دول عتيدة، تملأ الدنيا وتشغل الناس بأخبارها المتسارعة، ومع ذلك، تلك الأرض الشاسعة لا تسكنها سوى قطعان الماشية، وبعض الرعاة.. لكنها لو سُكنت بالناس ستتحول إلى وطن، بكل ما تتضمنه كلمة وطن من شعارات ورموز وقيم وتراث وتاريخ وصراعات.
على مد اليابسة، وعلى مر التاريخ، ذابت شعوبٌ، أو اندمجت مع شعوب أخرى، وانقرضت حضارات عريقة، وضاعت أوطان كثيرة؛ فقامت فوق أراضيها وتحت سمواتها أوطان أخرى جديدة، بهويات وتواريخ وثقافات جديدة.
وهنا يؤكد الشهاوي أهمية الأسطورة، التي بوساطتها يضخم أبناء الوطن من جمال وعظمة ومجد وطنهم، أكثر من مجموع حقائقه الكثيرة المكونة له.
فلا نجد فرقا بين مواطن يسكن الصومال وآخر يسكن اليابان، في الحب والارتباط بوطنه.
أي أن كل الأوطان سواء في أفئدة مواطنيها، لا فرق بين وطن صغير أو كبير، متقدم أو متأخر، قوي أو ضعيف.
هذه هي عظمة الأسطورة (المفيدة)، التي تجعل الإنسان يقدس تراباً بعينه على كل تراب الدنيا، رغم أن حقيقته واحدة، وتجعله يعظّم ويمجّد تاريخاً بعينه، مع أنه قد لا يكون أكثر من سلسلة من الأحداث المريرة والهزائم والفتن، ويعلي من قيمة وقدر أناس معينين، لمجرد أنهم أهله، تربى وسطهم، وتكلم بلغتهم، وهذا كله بهدف تحقيق هدف في غاية الأهمية، وهو أن يجعل من حبه لوطنه قيمة إنسانية تعطي لحياته جدوى ومعنى.
لا وطن بلا علَم، ومن هنا تساءل الكاتب إبراهيم جابر عن السر الذي يكتسبه العلَم الوطني، رغم أنه قطعة قماش بألوان ومقاسات معينة.
أثناء إعداده تقوم الخيّاطة بقص الأجزاء الزائدة منه، وترميها في سلة المهملات، ثم تتحول بقية قطعة القماش المخيطة بعناية إلى رمز وطني.. وبالطبع هو لا يسخر من العلَم، بل يقدسه، لكنه كشف عن قوة الأشياء المتخيلة عندما تتحول إلى رمز ثقافي أو وطني.
د.هنيدة غانم عرفت الوجود الوطني بأنه: «عالم المعاني الذي تعطيه الجماعة لوجودها ولتجاربها التاريخية وصيرورتها، وتعبّر من خلاله عن مشاعرها المشتركة ونظرتها تجاه القضايا المختلفة... وتشكل تلك المعاني محور سرديات الجماعة القومية، وتتضمن تصورها عن ذاتها، وتعريفها للنحن الجمعية المتخيلة».
ثمة مقولة منسوبة للفنان زياد الرحباني: «بعد ولادتك بخمس دقائق سيتحدد اسمك وطائفتك ووطنك دون أدنى اختيار منك، لكنك ستقضي كل عمرك تدافع عن هذه الأشياء».
ما سبق ليس جدالا حول مفاهيم الوطنية، الشعب، الدولة... بل مجرد أسئلة، تبحث عن إجابات متباينة، كيف نحرر وطنيتنا من أدران العنصرية والتعصب، وكيف نضيف للأوطان مهامّ جمالية وإنسانية وإبداعية، غير كونها قبوراً للأجداد، ومنازل للعصافير والنحل والناس الطيبين.