ماذا تبقّى من «الرقم الصعب» ؟

حسن البطل
حجم الخط

كنتُ «بطل» واقعة صحافية طريفة: كان يا مكان في قديم الزمان (ربما عام 1998 أو الذي يليه) عَنونت مقالاً لي: «قرار دَولي بالدولة؟!» مرفوقاً بعلامَتي استفهام وتعجُّب؟!
مدير مكتب وكالة أنباء «د.ب.أ» الألمانية المحترمة في غزة، نشر العنوان «خبراً عاجلاً» دون الانتباه إلى علامَتي الاستفهام والتعجُّب؟!
كان سياق المقال يفيد أن اتفاقية اوسلو لن تفضي إلى دولة فلسطينية، إن لم يصدر قرار دولي بإقامتها. لكن إسقاط العلامتين يوحي بأن القرار صدر؟!
السبق الصحافي العجول للوكالة، هو سبق صحافي لصاحب العنوان. لاحقاً أزالت «خارطة الطريق» الأميركية علامة التعجًّب، ثم أزاحها مشروع «الحل بدولتين»؟!
تعرفون أن إقامة م.ت.ف كانت قراراً عربياً، ثم استلبسته الفصائل الثورية، بقيادة «فتح»، بعد الهزيمة العربية 1967 بعامٍ واحد، وصار عرفات على رأس المنظمة بعد استقالة الشقيري، رحمهما الله.
حتى الخروج العسكري الفلسطيني من بيروت 1982، رفع عرفات شعار «القرار المستقل» الفلسطيني، لكنه لم يهمل «قومية المعركة» وحضر سائر القمم العربية، التي أكدت قراراتها، منذ «قمة الرباط» على حصر التمثيل السياسي والكفاحي الفلسطيني بـ م.ت.ف.. حتى المؤتمر الأخير في بيروت، بعد تدخُّلٍ سوري؟!
الأردن تقبّل القرار على مضض، وحافظ الأسد تساءل: لماذا يرفع الفلسطينيون القرار في وجه سورية بالذات.
السبب؟ م.ت.ف عانت، في مرحلتها اللبنانية الحاسمة، من «ديكتاتورية الجغرافية» السورية. رداً على شعار الأسد ـ الأب: «فلسطين سورية الجنوبية» قال عرفات: .. وسورية هي فلسطين الشمالية.
«القرار المستقل» سبب إشكالات هدّدت وحدة م.ت.ف الفصائلية، لكن جذع شجرة م.ت.ف وجد حلولاً لها، لأن «فتح» بقيت الجذع، والفصائل فروعاً وأفناناً لها.
منذ طرحت «فتح» و»الديمقراطية» برنامج النقاط العشر ـ برنامج السلطة الوطنية عام 1974، لأن برنامج التحرير القومي لفلسطين لم يتحقق في حرب 1967 أضاف عرفات لشعار «القرار المستقل» شعار «الرقم الفلسطيني الصعب في معادلتي السلم والحرب».
حرب الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، كانت اختباراً للقرار المستقل والرقم الصعب، وخرجت الثورة من التّماس الجغرافي مع فلسطين، ثم رفعت شعار عدم التدخل في الشؤون العربية.
كانت اوسلو، بمعنى ما، تطبيقاً فلسطينياً لشعاري «القرار المستقل» و»الرقم الصعب»، وكنتيجة سياسية من نتائج صمود بيروت خلال اجتياح 1982.
تحوّلت م.ت.ف إلى سلطة وطنية، وصار للسلطة حكومة، ومكاتب المنظمة صارت وزارات، والعَلَم الوطني المحظور إسرائيلياً في فلسطين صار شرعياً، ومكاتب التمثيل الدبلوماسي الخارجي صارت سفارات.
هل فشلت اوسلو في تحويل السلطة دولة مستقلة، بعد فشل كامب ديفيد 2000 في اتفاق سلام نهائي فلسطيني ـ إسرائيلي؟ سننتظر صدور «خارطة الطريق» و»الحل بدولتين» لتصبح فلسطين حقيقة سياسية دولية، وقراراً دولياً بإقامتها.
صار «القرار المستقل» مرفوعاً ليس ضد سورية و»قومية المعركة» بل يخضع لنقاش ومفاوضات وخلافات مع أميركا وإسرائيل (وبعض العرب). ليس مهماً ما يُقال: لم تعد فلسطين قضية عربية مركزية، لأنها صارت قضية مركزية في معادلة السلام، وكذا لإسرائيل، حيث انتقلت وطأة البندقية الفلسطينية من كتف عربي رخو (ازدادت رخاوته بعد «الربيع العربي») إلى صخرة سياسية على صدر إسرائيل، بعد قرار دولي بـ «الحل بدولتين».
حالياً، يبدو أن القرار المستقل سُحب من خانة الشعار، حيث تناور إسرائيل بين المبادرة الفرنسية لعقد مؤتمر دولي والمبادرة المصرية. أمّا فلسطين فتناور بين المبادرة الفرنسية والمبادرة الروسية لعقد قمة في موسكو.
لم تعد إسرائيل تقول «أ.ش.ف» (أراغون شحرور فلسطين) عن م.ت.ف، بل تقول: السلطة الفلسطينية، ويشيرون فيها إلى «إسرائيل ـ فلسطين» في المقالات والبحوث.
السؤال: متى تتحوّل فلسطين كحقيقة سياسية دولية إلى حقيقة سيادية دولية؟ إسرائيل تلغو بتحالف مصالح ضد الإرهاب مع بعض الدول العربية السنّية، لكن ذلك لن يتحقق دون مرور الإبرة السياسية الإسرائيلية من خرم الدولة الفلسطينية الذي صار يتسع لمرور حبل غليظ، لكن خرم الإبرة الفلسطينية ضيّق جدّاً أمام الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل.
لن تعود الفراشة الكيانية ـ الدولانية الفلسطينية إلى مرحلة اليرقة. تقرير المصير الفلسطيني يتداخل مع المسار السياسي والأيديولوجي (والأمني طبعاً) الإسرائيلي، والعكس صحيح. أيضاً، ولو تحوّل «القرار المستقل» و»الرقم الصعب» من شعار إلى ممارسة سياسية معقّدة.
سُئل شو ـ إن ـ لاي في الستينات: كيف يرى العالم بعد نصف قرن؟ قال: تحالفات جديدة، وعدوان جديد، وفوضى في كلّ مكان.
الفوضى ضاربة أطنابها في العالم و»الربيع العربي» والهلال الخصيب لكن لن يتحقق انتظام جديد دون «الحل بدولتين»، وليس مهماً صيغة هذا الحلّ.. أو موقع علامتي الاستفهام والتعجُّب؟!