اعتاد الكتّاب في معالجتهم الشأن الفلسطيني تناول قصص الشهداء والأسرى والتضحيات، وهذا النهج رغم أهميته، إلا أنه يؤدي إلى تنميط الفلسطيني في صورة الضحية. وبعضهم اعتاد تناول الجوانب السلبية؛ ورغم أهمية النقد وصراحة التشخيص، إلا أن هذا الأسلوب أحيانا يعمق مشاعر الإحباط، ومن ناحية ثانية، ثمة جانب آخر من الرواية الفلسطينية، يجب تناوله أيضا.. أي الجانب الإنساني في قصص الصمود والبقاء. وإليكم أمثلة:
قرية "النبي صموئيل" شمال غرب القدس، ترابط منذ زمن الكنعانيين على قمة جبل يمنحها إطلالة فريدة على المدينة المقدسة، مبنية على موقع أثري يدعى "مصفاة"، وتعني بالآرامية "برج النواطير".. في زمن الانتداب البريطاني حاولت المنظمات الصهيونية بدعم من المندوب السامي السيطرة على القرية، إلا أن يقظة أهاليها حالت دون ذلك. سنة 1922 بلغ عدد سكانها (121) نسمة، وفي سنة النكسة بقي منهم (66) مواطنا، ورغم مرور نحو خمسة عقود ظلت الزيادة في سكانها بطئية جدا، وبالكاد ثبتت عند الرقم (230) نسمة؛ فبسبب الإجراءات الإسرائيلية لا يجد الشبان متسعا لهم في القرية، فيضطرون للارتحال إلى مناطق أخرى.. فالبيوت قديمة، ولا تسمح سلطات الاحتلال بترميمها، حتى أنها هدمت مرحاضا مساحته 2م2، ملحقا بمدرسة القرية الابتدائية الوحيدة..
تعيش القرية في جيب معزول بالمستوطنات، وقد أغلق الاحتلال الشارع الوحيد المؤدي لها، وثبّت عليه حاجزا عسكريا يمنع أي شخص لا يحمل هوية تشير إلى إقامته فيها من المرور إليها، وكل من يريد الدخول يحتاج إلى تنسيق مسبق (كما هو الحال في برطعة، وعشرات القرى خلف الجدار)، ولا يستطيع أهلها دخول القدس إلا بتصريح، كما أن الجدار العازل يمنعهم من الوصول إلى رام الله.. ويمنعون أيضا من إدخال مواد تموينية أساسية، فيضطرون إلى استئجار سيارات ذات لوحات صفراء، بكلفة عالية، لتقوم بنقل مشترياتهم خاصة أسطوانات الغاز، كما يمنع الجنود في كثير من الأحيان مرور الماشية، بل ويمنعونهم حتى من زراعة حواكيرهم، ولضمان ذلك ثبتت كاميرا فوق المئذنة لمراقبة تحركات الأهالي.
تفتقر القرية لأبسط الخدمات، فلا يوجد فيها عيادة، ولا طواقم لجمع النفايات، ومدرستها عبارة عن غرفة واحدة بالكاد تتسع لثلاثين طالبا. مع كل ذلك، الأهالي صامدون، الحاجّة "أم محمّد بركات" تقول: "بدهم إيانا نرحل، وأنا خلّفت وجوّزت ولادي هون، ومش رح نرحل".
وهناك أيضا قرية "العراقيب" في النقب، والتي أقدمت الجرافات الاسرائيلية قبل أشهر قليلة على هدم بيوتها للمرة الـ 101، بحجة البناء بدون ترخيص. الناشط "عزيز العراقيب"، قال إن قوات عسكرية دهمت القرية فجرا، وهدمت جميع منازلها المصنوعة من الزينكو والخيام، ما أدى إلى تشريد العشرات رغم الأجواء الصحراوية الحارة.. مضيفاً: "نحن نعيش في حالة ترقب دائم، لأننا نتوقع هدم القرية في أي لحظة، لكننا سنعيد بناءها مجددا، ولو هدموها آلاف المرات".
وحال العراقيب ينسحب على 51 قرية وتجمعا بدويا في مناطق 48 لا تعترف السلطات الاسرائيلية بها، ولا تقدم لها أي نوع من الخدمات، بل تواصل التنكيل بها، بالهدم والاقتلاع والتّهجير.. قرية "اللقية" مثلا، يمنع الجيش الأهالي من زراعة أراضيهم، بحجة أنها أملاك دولة، رغم أنهم يقيمون فوقها قبل قيام إسرائيل بمئات السنين، وفي كل سنة، وعند حلول الموسم، تأتي طائرات زراعية وتقوم برش المحاصيل بمبيد عشبي يؤدي إلى حرقها، ومع ذلك يقوم الأهالي بزراعتها مجدداً.. والمفارقة، أن إسرائيل جففت بحيرة الحولة، ونهبت مياه نهر الأردن بحجة تخضير النقب!!
ومثل أهل النقب، يعاني عرب الجهالين من سياسات الهدم والتشريد، فحيث يقيمون في المنطقة ما بين القدس وأريحا، ويعيشون في "براكيات" بائسة ضمن ظروف صعبة ومحفوفة بالمخاطر، وتحت خطر الترحيل.. وأقرب مدرسة تبعد عنهم عدة أميال، وهي مدرسة الخان الأحمر، وقد أصدرت محكمة إسرائيلية قرارا بهدمها، ومع ذلك، فازت الطالبة البدوية "صالحة حمدين" بجائزة هانز كريستيان الدولية للقصة الخيالية، من بين 1200 عمل من جميع أنحاء العالم.
لكن معاناة أهل القدس من نوع مختلف؛ فهم يواجهون لوحدهم مخططات التهويد، والأسرلة، وسياسات التفرقة العنصرية، حيث يفرض عليهم الاحتلال ضرائب باهظة، ويمنعهم من ترميم بيوتهم، أو بناء بيوت جديدة (إلا ضمن شروط تعجيزية)، فضلا عن عمليات الهدم والترحيل وسحب الهوية والاعتقالات.. وفوق ذلك يعانون من نسب بطالة مرتفعة، ومن غلاء فاحش، وما تتعرض له القدس تتعرض له المدن العربية داخل الخط الأخضر، وخاصة يافا وحيفا وعكا.. ولكن بدرجة مضاعفة.. ومع ذلك فهم صامدون ومرابطون.. حتى أن مجرد بقائهم في بيوتهم يعد معجزة..
وفي البلدة القديمة من الخليل، يعاني الأهالي من عربدة المستوطنين واعتداءاتهم المتكررة، وتواطؤ الجيش معهم، ومع ذلك؛ فإن الحاج "جميل أبو هيكل" (75عاما) من "تل الرميدة"، رفض ملايين الدولارات التي عرضها عليه المستوطنون مقابل بيع منزله لهم، رغم أنه يقطن في بيت متواضع جدا، لا يفصله عن المستوطنة سوى أسلاكها.
وفي قرية دورا القرع شمال رام الله، استطاع "عبد الرحمن قاسم" (77 عاما) بعد معركة قضائية استصدار قرار محكمة بهدم البناء الاستيطاني في أرضه الواقعة داخل مستوطنة "بيت إيل"، باعتبارها ملكية فلسطينية خاصة، ومع أن القرار لا يتيح لقاسم الوصول إلى أرضه والعودة لزراعتها، إلا أنه يأمل أن يتمكن من ذلك أبناؤه وأحفاده يوما ما.
وكان مستوطن إسرائيلي قد عرض عليه مبلغ 28 مليون دولار مقابل أرضه، إلا أنه رد عليه: "الأرض ليست للبيع". ويقول قاسم: "زارني القنصل الأميركي بعد تحريك الدعوى ضد البناء الاستيطاني على أرضي، لتقديم إغراءات من أجل سحب الدعوى، فقلت له إن الإسرائيليين قتلوا تسعة شبان على هذه الأرض وهم يدافعون عنها، بينهم ابني إبراهيم الذي كان طالبا جامعيا، فلو أن ابنك قُتل لأجل أرضك، هل تبيعها؟".
وفي بلدة الخضر جنوب بيت لحم، تلقى المزارع "إبراهيم سليمان" (44 عاما)، عرضًا مغريا من قبل "مسؤول أراضي الغائبين في إسرائيل" بلغ خمسة عشرة مليون دولار، مقابل التخلي عن أرضه البالغة مساحتها 18 دونمًا، والواقعة داخل مستوطنة "أفرات"، إلا أنه رفض.
ومثلهم آلاف الحالات والقصص التي تنبض بالإبداع البطولي الإنساني، وعبقرية الصمود.