رجل في الخمسينيات من عمره، سحنته نحيفة، لقد لوّحتها أشعة الشّمس، يتوسطها شارب أسود ولحية خيّطهما الشّيب، وهو رجل ملْهُوز شعر رأسه، وحالته تشير إلى عصاميّته ومثابرته، وتتقاطر حبات العرق الفضيّة المتراقصة من جبهته مبللة بشرته السّمراء، وهو يجوب وسط مدينتي رام الله والبيرة، ويتنقل من مكان إلى آخر بخفَّة، وَيُبَسِّط على أرصفة الشّوارع المكتظة بالمارة أو على دوّار المنارة أو ميدان المغتربين مثل: بائعي الخضار، والملابس والأحذية .. يُخرج ناياته الجميلة من جِرابه و تفترش الأرصفة، ثم يبدأ بالعزف على النّاي* بهدف البيع والتكسّب، فينتشر لحنه الشّجي في الأثير .. ينادي العابرين والعابرات .. والناس يرمقونه بنظرات الإعجاب والسّرور، ويجذبهم للشراء من ناياته المُكدّسة فوق بعضها البعض .. وكلما اقترب أحد الزّبون منه، تزداد شدة نبرات ألحانه الأخّاذة، بحيث تُسعد الشّاري المُنهمك في اختيار النّاي الذي يعجبه، وتراه يُقلِّب وجهه يُمنة ويُسرة، ونظراته تطارد المارَّة، ويُرَقِّص رأسه إلى أعلى وإلى أسفل، ويدور مع اللحن في جميع الاتجاهات، وتهتز ساقاه النحيلتان مع وقع الألحان الشعبية الفولكلورية الفلسطينية الدّارجة، ونغماته المنتظمة، وموسيقاه التصويرية لواقعنا وتراثنا، و تَميد أطراف سِرباله العريض مع هفهفت النَّسيم لدرجة أن الشَّاري يبتاع النّاي بكل سرور وهو يبتسم، ويُثنِي على هذا الأسلوب الشَّيق في التجارة، ألا وهو أسلوب التجارة بالموسيقى، والطرب الشّعبي ..
لقد أثار هذا الرجل فضولي واهتمامي بأسلوبه المميز، ففي أحد الأيام، اقتربت منه عند العصريّة بعد الانتهاء من العمل، وكان منهمكا في عزفه، ويُحرِّك أنامله بمهارة فائقة على ثقوب النّاي النَّفخي المصنوع من نبات القصب البرّي و الخيزران، وبإيقاع منتظم، وهذه الثقوب هي عبارة عن مفاتيح لتغيير صوت هذا اليَرَاع المُثقَّب، وإحداث الطرب المثير للإحساس الفولكلوري، والمدغدغ للعواطف بالنّفخ .. وترى الدّبيكة من الشباب تستهويهم هذه الألحان التراثية فسرعان ما يلوِّحون له بأيديهم و يتجمهرون حوله في حلقة، ثم يشرعون بالدّبكة على أنغامه، الكرادية، أو دبكة الدِّحية، أو دبكة الدلعونا ..الخ، وهو يتبختر بنايه بينهم مثل اختيال الطاووس بين الورود، وهو مفعم بالحيوية، والبهجة تتجلى على محياه، و تتراقص أصابعه المبرومة مثل العصافير على ثقوب النّاي ..
- مرحبا أخي الكريم
- توقف عن العزف، ثم ردّ: أهلا بك.
تصافحنا، ثم عرّفته على نفسي، واستأذنته بكتابة قصة قصيرة عنه ..
انفرجت أسارير وجهه عندما سمع بهذا الاهتمام الغريب .. حَدَجني بنظراته الفاحصة ثم ارتسمت على محيّاه ابتسامة عريضة، وأجاب:
- "بكل سرور، أكتب ما تشاء .. أنا اسمي "محمد .. " من قرية "الريحية" بمحافظة الخليل، وأسكن حاليا في بلدة "بيتونيا"، وأعيل أسرة مكونة من عشرة أنفار، ومنذ عشرين عاما وأنا أكسب قوت عيش أسرتي من خلال بيع النّايات في وسط رام الله وغيرها بهذه الطريقة، وقد تعلمت النَّفخ على النَّاي من جدي المرحوم "علي" ، الذي عاش مئة وخمسة وثلاثون عاما، أثناء رعيه للأغنام والماعز ، والحمد لله مستورة .. ويدخل إلى جيبي يوميا ما بين سبعين إلى تسعين شيقلا " ..
رفع كفّ يده اليمنى إلى شفتيه، وقبَّلَ باطنها وظاهرها شكرا لله على نِعمه..
- كم يا أخي ثمن الواحد؟ بينما نحن نتحدث، يقاطعنا بعض الزبائن بسؤاله..
- أهلا وسهلا .. بعشرة شواقل .
يدفع الثمن ثم ينساب بين المارة ويتبعه، ثاني، وثالث، ورابع، و...الخ.
ثم نعود ونواصل حديثنا، وهكذا دواليك حتى أنهيت حديثي معه..
لقد استحوذ هذا الرجل، طويل القامة، بأسلوبه التسويقي المثير على، قلوب، وعقول، وتفكير، وسلوك الناس في وسط المدينتين الزاخرتين بالمآثر البطولية، وبالروح الفلسطينية، وتصوير العواطف البشرية البسيطة .. وصار مَحجَّا للراغبين باقتناء هذه الآلة الموسيقية التراثيّة الفلسطينية حميمة الصوت، والتي بدأت تختفي من حاضرنا، بعدما كانت منتشرة بكثرة مع عازفيها في أريافنا ومدننا في الزمن الغابر، ولا تحلوا الأعراس بدونها ..
___ 5/9/2016م
naseer_rimawi@yahoo.com
*النّاي: آلة من آلات الطرب الموسيقية الشعبية النّفخيّة، على شكل أنبوب وتصنع من نبات القصب البري (البوص) المجوف أو الخيزران، لها ستة ثقوب من الأمام كل ثلاثة ثقوب مبتعدة قليلاً عن الثلاثة الأخرى، و ثقب رابع من الوراء في منتصف الناي، وهي مفتوحة الطرفين من فصيلة الهوائيات و صوتها شجي.