تلك القصائد التي لم نكتبها ...
القصائد التي ضاعت في الحروب كأطفال رضع ازدحمت بهم ممرات الموت والطرق المقفرة وأوقات القذائف واحتمالات النجاة ...
تشبه لوحات لم نرسمها، ضاعت هي الأخرى في البريد الذي لم يصل إلى مشارف غد، يطل على أخبارنا بصمت بينما يحتسي قهوته الصباحية بعمق ...
* * *
تلك القصائد التي لم نكتبها ...
صارت نحن في الوقت الذي ازدحم بنا عند أول السؤال عن الفرق بين الغيمة والموجة في قارب يتأرجح فوق غموض البحر ...
أصبحنا نعاني من الصداع الملوث برذاذ اليود
كما نعاني من الهواء الملوث ببقايا جروحنا المكشوفة للنسيان ...
ومن ذباب البارود الذي يلاحقنا الى موتنا بإصرار مقاتل لم يكف عن طنين الموت ...
نحن الجثث الطافية فوق موج الحكاية
الناطقة دون معجزات الهية ...
الباحثة عن مبررات ساذجة للصراخ بانفعال: يابسة ... يابسة ...
نحن ظل المتاهة الخارجة من قعر المحيط ... نطفو كما يشاء الماء وقوانين الفيزياء المعقدة ورغبة أسماك القرش في اللهو قليلا ببقايانا العائمة ... ونغوص في العدم الأسود كي تفترس ما تبقى منا أسماك القاع الجائعة ...
نحن الصبر الذي لم يقنع جني الخرافة حين دعكنا المصباح، وقلنا نريد ضوءا في آخر النفق، لكنه فر إلى أمنيات أكثر أمنا من وقت يواجه الرصاص بنشرات الأخبار العاجلة ...
نحن النص الذي أفلت من مسرح العبث، ليتسلل الى مقاعد المتفرجين، عائدا بهم الى منازلهم، وعاداتهم اليومية في التهكم والسخرية والحزن الغامض ... جاعلا من اليوميات نصا جديدا يتقاسم فيه المتفرجون الأدوار مع القتلى، كما الصخب مع الموسيقى ودوي القذائف مع الإعلانات التجارية ...
* * *
تلك القصائد التي لم نكتبها ...
اتخذت أبجدية جديدة، ومفردات لم نجد لها الوقت كي نحاورها حين تحولت بين حرب وحرب إلى مدن بلا قتلى، تقرأ الشعر في المقاهي دون قناصة أو جنود يتلصصون من خلف مناظيرهم على مجازات القصائد ...
أصبحنا بحاجة إلى ذلك الوقت الديناصوري الذي انقرض مع بداية القذائف حين أصبح الحريق سيد المفردات التي نشتق منها خوفا وأملا وانتظارا أصابه الرصاص بعرج مزمن.
أصبحنا بحاجة إلى ابتكار الترجمة، ترجمة تلك القصائد التي لم نكتبها لكنها صارت شعرا في مدن بعيدة نجت من حروب طائشة وصارت شعراء ورسامين وكتابا يحترفون سرد الرواية.
نترجمنا منا، من تلك الرغبة المتمردة في بقايا مخيلة مرتعشة، كأن نقول شعرا في حياة تجاوزتنا كقطار مسرع مر عن رصيف المحطة ...
نتعلق بأمنياتنا الصغيرة، كالجلوس إلى جانب النافذة في القطار، كقراءة كتاب أثناء السفر، أو الحديث إلى مسافرين عن الطقس والكتابة، ومزايا البلاد في الشعر والموسيقى ...
كأننا أصبحنا بحاجة لنا أكثر من قبل كي نقرأنا دون هوس في صيغة المضارع، المهددة بالموت أو نستولجيا فعل الماضي الذي يرتعش أمام المنفى كدوري جريح ...
* * *
تلك القصائد التي لم نكتبها ...
لم تغادر ثنايا الوقت الجريح، بل وقفت الى جانبنا في الجنازات، مشت مع المشيعين الى آخر صورة قد ينتزعها مصور جريء عن الحدث أو تلتقطها كاميرا هاتف جوال عبر " عصا السيلفي" قبل أن تهمس في أذن الجسد الممدد في التابوت: جئتك منك، من صورتك الغائبة ومجازك الذي نجا من احتراقك اليومي ليصبح حياة متجددة ...
لم يدرك أحد سر القصائد لم نكتبها ....
تلك القصائد التي سافرت وجوها وبلادا كي تنجو من الموت ...
لكنها عادت من سفر الغياب تؤبن القتلى بقليل من مجاز يليق بوداع كان لولا الحرب فرحا بميلاد ديوان شعر جديد ...