من أبو القسّام إلى طفل في عمّان

د احمد جميل عزم
حجم الخط

بقلم: الدكتور أحمد جميل عزم

حضرتُ الأسبوع الماضي، حفل زفاف قسّام، نجل القائد الأسير مروان البرغوثي. وفي سهرة الشباب، التي أقيمت في أرضٍ بحجم ملعب كرة قدم في قريته الجميلة "كوبر"، قرب رام الله، وبينما صور القائد الأسير تتوسط القائدين الشهيدين خليل الوزير (أبو جهاد) وياسر عرفات، كان عشرات الأطفال، بعشوائية وتلقائية، ينتشرون حاملين الأعلام الفلسطينية، طوال الوقت. وهو ما جعل صديقي الغاضب من الوضع السياسي العام، والذي كان قائداً صلباً منذ كان مروان طفلاً بأعمار هؤلاء، والمستنكف الآن عن العمل السياسي، يضحك وهو ينظر لحملة الأعلام الجدد، يقول: "علقة الإسرائيليين معانا عَلقَه سودا"؛ في إشارة إلى مأزقهم من تجدد الحركة الوطنية الحتمي، حتى لو تعب أو أُحبِط أو أخطأ الكبار.

كان الحفل فرصة للقاء أطياف من رفاق درب مروان؛ من سبقوه من ثوّار الأرض المحتلة، وأصحاب التجارب الاعتقالية الطويلة، ومقاتلي الثورة العائدين من الخارج؛ من "تقاعد" منهم، ومن لم يزل، وشباب كانوا في المعتقل مع مروان، أو قسّام، وشُبّان جُدد، وأطفال، وطلاب، وسياسيون، وسُلطة. وفرصة أيضا للحصول على نسخة من كتاب الأسير مسلمة ثابت، عن تجربة التعليم الجامعي (القانوني وغير القانوني) في السجون ، وتحديداً سجن "هداريم"، وكيف يتابع الأسرى تعليمهم، وكيف أنّ الدكتور "أبا القسّام لا يكل ولا يتعب" في تدريس الطلبة. وسيكون لي عودة منفصلة لهذا الكتاب.

في ردٍ على رسالةٍ شفوية تسللت من طفل في عمّان إلى مروان، لم يأت الرد مُختَصراً، بل من صفحتين. ورغم أنّ الرسالة سابقةٌ كثيراً على "سهرة الشباب"، لكن كأنّه يصف شيئاً فيها، وتحديداً الأطفال، وهو يوجه رسالته للطفل، بالقول: "حبيبي وابني العزيز...، تحية المحبة والتقدير لك يا عزيزي ولأسرتك الكريمة. ومن خلالك تَحية حُبٍ وتقدير لكل زملائك أطفال فلسطين والعرب وشبابها، وقبلاتي لك ولهم. وها هم الأطفال الصغار يحملون فلسطين على أكتافهم ويحملون أرواحهم على أكفهم بعد أن تقاعس الكبار. وهذه هي فلسطين التي تلد أطفالا رجالا يدهشون العالم في كل مرحلة من مراحل كفاحنا الوطني. ويستحق هؤلاء الأطفال في فلسطين، والشباب أن يقدّم لهم آباؤهم وأجدادهم اعتذاراً لأنّهم لم يوفروا وطناً حراً محرراً وآمناً وسيداً يتمتعون فيه بطفولتهم وشبابهم، مثل كل الأطفال في العالم".

الوصفُ مفرح والاعتذار مؤلم، كما الواقع.

كان وما يزال الصمود وتجدد الإيمان بالقضية وعدالتها، يملآن الروح بالسرور. لكن استمرار الأَسر والاستشهاد والعذابات، يملؤهما بالألم، فيما الفشل يُلجم العقول ويتحداها. أو كما يقول مروان: "فليس من المنطقي بشيء أن يدفن الآباء أبناءهم وأطفالهم، وليس من الطبيعي والمنطقي أن يزج الأطفال في غياهب السجون وزنازين التحقيق ومعسكرات الاعتقال وهم في عمر الزهور".

مروان وكأنه يتحدث للأطفال في الحفل، من على المنبر، ويخاطب الدم المندفع في العروق مع ضربات طبل غناءٍ وطني، يقول: "يجب أن تكون فخوراً بانتمائك لفلسطين وشعبها العظيم الذي يواجه منذ ما يزيد على المائة عام المشروع الصهيوني الاستعماري، ومؤكداً على تمسكه ببلاده ووطنه فلسطين أرض الآباء والأجداد أرضاً وسماءً وبحراً وسهلاً وجبالا وهضابا وأنهاراً وأشجارا وبشرا (...) وهو مصمم على مسيرة المقاومة الشاملة لهزيمة المشروع الصهيوني ونيل الحرية...".

يزرعُ عَلماً، ويعزف لحنَ شَرفٍ قَسّامِيٍ عُروبي من رُبى كوبر، وهو يخاطب الطفل ويقول: "وأنت على الضفة الأخرى للأردن الشقيق، وتوأم فلسطين، تَذكّر دائِماً أنّ للماء ذاكرة وأنّ الجسور تولد من رحم المسافرين. تذكر وأنتَ على مقاعد الدراسة أن فلسطين أمة وأنك من يَرسُم حدودها وأبجدية العائدين، وأنت في العاشرة، أنّك وكل أطفال فلسطين والعرب حاضرون فينا، وأن لكم مكاناً في الجدارية تلك المرسومة على جدران زنزانتي. ولتعلم أنّ كُل حرف تتعلمه وكل كتابٍ تَقرأه وكُل حِكمة يصل إليها العقل تُقرّبك من فلسطين خطوة، فتَعلَّم قدر ما تستطيع التعلم، وتذكر أنّه بالعلم والإرادة العالية والمؤمنة فقط تسقط الجدران وتغيب السجون وتبنى الأوطان، وتُستعاد الطفولة. وأعلم أنت وكل أطفالنا، أننا نمد ونفرش عمرنا وأرواحنا وعذاباتنا جسراً لِتعبُروا إلى وطنٍ حُر مُستقِل وسيد يليق بكم، وأن ثقتنا بالنصر لا تتزعزع، وأننا على ثقة أن موعدنا مع فجر الحرية آتٍ لا محالة".

... عن " الغد" الأردنية